أحزاب الشاي والقهوة؟!

TT

اختبار الديمقراطية في كل العالم الديمقراطي يأتي خلال فترة زمنية تتراوح ما بين خمس وسبع سنوات؛ أما في الولايات المتحدة وحدها فإنها تأتي كل عامين على رئيس الجمهورية خلالهما أن يثبت أنه جدير بالمنصب، وبعد عامين آخرين فإنه من الممكن طرده من البيت الأبيض كلية. ولم يشفع للرئيس الديمقراطي جيمي كارتر أنه كان متدينا أو دمث الخلق أو حقق معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، فخرج من السلطة بعد فترة رئاسية واحدة لكي يحصل بعد عقود على جائزة نوبل للسلام في مواضيع أخرى. ولم يكن انتصار جورج بوش الأب على الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، ولا انتصاره على العراق في حرب تحرير الكويت، ولا سعيه لإقامة نظام عالمي جديد، يكفي لكي يمنحه الأميركيون فترة رئاسية أخرى. وكان هناك ظن أن ما فعله جورج بوش الابن بالاقتصاد والوضع الاستراتيجي العالمي الأميركي فيه من الكوارث ما يكفي لكي ينسى الأميركيون السياسات المحافظة كلها، ولكن لم يمض وقت على حكم باراك أوباما حتى ظهر «حزب الشاي» لكي يقول للأميركيين وللعالم إن ما عرفوه من قبل عن «المحافظين الجدد» سوف يذبل أمام نوعية جديدة من المحافظين لا يدري أحد إلى أين تقود أميركا ومن ورائها العالم.

الحكاية هذه المرة بداياتها مثل كل البدايات، أن الأميركيين مغرمون بالتغيير والانتخابات معا؛ وكان انتخاب باراك أوباما ليس تغييرا بل انقلابا هائلا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأميركية، وعندما جاء موعد الاختبار بعد عامين فقط من خلال انتخابات مجلس النواب ومقاعد في مجلس الشيوخ، وأخرى لحكام الولايات لم يكن هناك ما يسر. وربما كان في الأمر سرعة أو تسرع في الحكم، ولكن تحديد مدة عامين لانتخابات الكونغرس كان مقصودا لأن الشعب عليه أن يمارس اختصاصاته في الحكم والتقييم. وقبل قيام الجمهورية الأميركية كانت بعض فرق الجيش «القاري» القادمة من ماساشوستس تنتخب ضباطها وسط تعجب قائد الجيش جورج واشنطن القادم من فيرجينيا ويعرف الكثير عن الانضباط العسكري. لقد حصل أوباما على فرصته الكاملة حينما فاز بأغلبية مريحة، وحصل حزبه على الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ وحكام الولايات، والآن أصبح السؤال هو ما الذي فعله بهذه الأغلبية؟

والإجابة هي أن الرجل استخدم ما حصل عليه في تمرير بعض المشروعات التي أثارت جدلا واسعا داخل الولايات المتحدة، مثل قانون إصلاح قطاع الرعاية الصحية الذي تم التصديق عليه بشكل منح الرئيس أوباما فرصة تاريخية للانضمام إلى قائمة الرؤساء الأميركيين القلائل الذين نجحوا في فرض تغييرات رئيسية في مجال الرعاية الاجتماعية، ومثل قانون إصلاح النظام المالي الذي أقره الكونغرس أيضا. لكن مشاعر الاستياء لدى قطاع من الأميركيين تصاعدت تجاه الوضع الاقتصادي، حيث لم تحقق المساعي التي بذلها الرئيس أوباما لإنعاش الاقتصاد الأميركي أهدافها بشكل كامل، فضلا عن أن وصول معدل البطالة إلى 9.6% صب في خانة الحزب الجمهوري، ومثل نقطة ضعف مهمة لدى الحزب الديمقراطي، أفقدته السيطرة على مجلس النواب، فيما نجح الديمقراطيون في المحافظة على سيطرتهم على مجلس الشيوخ حتى بعد أن فقدوا بعضا من المقاعد.

النتيجة هكذا فيها رسالة سياسية وتحذير واضح أن فترة رئاسية أخرى للرئيس الأميركي لم تعد من الأمور المضمونة، وهي رسالة سبق أن حصل عليها رئيس ديمقراطي آخر هو بيل كلينتون في انتخابات التجديد النصفي عام 1994، وكانت كافية لكي يغير من سياساته التي جعلت الاقتصاد الأميركي يصل إلى أقصى حالاته رخاء وإلى الدرجة التي جعلت الشعب الأميركي على استعداد لغفران معصية مونيكا لوينسكي الشهيرة. ولكن الرسالة هذه المرة فيها ما هو أعمق وهو أن ثمة خريطة سياسية جديدة فرضها فوز الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، أبرز معالمها ظهور تيار جديد هو تيار «حزب الشاي» أو Tea Party، الذي ولد في أحضان الأزمة الاقتصادية العالمية التي استدعت تدخلا من قبل الإدارة الأميركية في الاقتصاد لإنقاذ عدد من البنوك والشركات الكبرى من الانهيار. ويعود اسمه إلى التمرد الذي وقع عام 1773 عندما فرض الملك جورج الثالث ضرائب على الشاي المستورد من الهند، فقام أصحاب البواخر بتنظيم تظاهرات وألقوا بشحنات الشاي في البحر. وفي الانتخابات الأخيرة، نجح بعض مرشحي التيار في الحصول على مقاعد في مجلس الشيوخ. ويعتمد هذا التيار في توصيل رؤاه على الوسائل التكنولوجية الجديدة مثل «الفيس بوك». ويتسم بعدد من الخصائص أهمها، أنه ليس حزبا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، فهو تنظيم هلامي يجمع ثلاث منظمات أو تجمعات هي «لا تذهب» و«الحرية تعمل» و«أميركيون من أجل الرخاء». ورغم أنه انتشر في معظم الولايات، فإنه ينشط في الولايات الجنوبية تحديدا. كما أنه يخضع لسيطرة البيض، حيث تمثل نسبة السود فيه نحو 1% فقط، إلى جانب أنه يتبنى آيديولوجية ترفض التدخل الحكومي في الاقتصاد، وتدافع عن حقوق الإنسان والديمقراطية وترفض التدخل العسكري الأميركي في الخارج وتسعى إلى خفض الإنفاق العسكري - وهو ما يثير قلق بعض المتشددين داخل الحزب الجمهوري - وتدعو إلى عدم فرض قيود على الشركات، وعدم فرض ضرائب جديدة خصوصا على الأغنياء. ولمواجهة أفكاره، ظهرت حركة مضادة للحزب أطلقت على نفسها «حزب القهوة».

مثل هذا الانقسام بين حزبي الشاي والقهوة ليس جديدا على الحياة الأميركية، بل ربما ليس جديدا على كل أشكال السياسة في العالم، حيث ينقسم الناس على مدى التدخل الحكومي في حياة الناس، وعلى مدى التورط مع العالم الخارجي؛ وهناك دائما من يقبعون في الوسط ويحاولون الجمع بين الأطراف أو خلق تيار معتدل. وربما كان ذلك هو الخطأ الذي ارتكبه أوباما وجاءت الانتخابات لكي تحذر منه، فقد تصور أن بإمكانه إصلاح العلاقات مع العالم الإسلامي، وإقامة السلام العربي الإسرائيلي، والتحالف مع روسيا والصين والاتحاد الأوروبي واليابان في وقت واحد مع إبقاء القوات الأميركية في العراق وأفغانستان. وبينما الحال كذلك في الخارج فإنه يمكنه إصلاح قوانين الهجرة والطاقة والنظام الضرائبي، وكل ذلك في جرعة واحدة لا يستطيع الشعب الأميركي ابتلاعها أو دفع ثمنها.

المسألة الآن هي: ماذا يفعل أوباما لمواجهة حزب الشاي، خاصة أن حزب القهوة المضاد لا يزال وليدا وأقل عنفوانا، والأرجح أنه سوف يذهب إلى الوسط ويعتمد على عناية الله في أن يخرج الاقتصاد الأميركي من كبوته، فإذا ما حدث فإنه سيحصل على ولاية أخرى، أما إذا فشل فسوف نرى بعد عامين رئيسا جديدا في البيت الأبيض.