سكارى يقودون سيارة

TT

هذا هو التشبيه الذي استخدمه الكاتب الصحافي الأميركي توماس فريدمان لوصف حكومة نتنياهو وتبعات سياساتها، واقتبسه عضو الكنيست رون بار أون للهجوم على سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي. مناسبة الكلام كانت النقاش الذي شهده الكنيست الأسبوع الماضي حول العزلة الدولية التي تواجهها إسرائيل جراء سياسات المراوغة والتحايل والتهرب من عملية السلام واستحقاقاتها. وقد جرى نقاش الموضوع في الكنيست رغما عن نتنياهو بعد أن وقّع 40 نائبا على طلب بحث نتائج سياسات نتنياهو وتداعياتها الخارجية.

الواقع أن هذا الحديث يشكل صدى لنقاش يدور بين أوساط يهودية داخل إسرائيل وخارجها، لكنه يبدو أكثر وضوحا في الولايات المتحدة حيث يشعر كثير من اليهود أن سياسات نتنياهو تشكل خطرا على إسرائيل وعلى علاقاتها مع الإدارة الأميركية. وكان فريدمان كتب مقاله المذكور في مارس (آذار) الماضي ووجه فيه انتقادا حادا لحكومة نتنياهو بعد إعلانها لمشروع بناء 1600 وحدة إسكانية في القدس الشرقية في خطوة اعتبرت ضربة لجهود إحياء عملية السلام، وصفعة لنائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي كان يزور إسرائيل وقتها بهدف دفع هذه العملية. واعتبر فريدمان أنه كان من الأفضل لو غادر بايدن إسرائيل فورا وقتها لتسجيل احتجاج قوي على موقف حكومة نتنياهو مع رسالة تقول «إن الأصدقاء لا يتركون أصدقاءهم يقودون سيارة وهم سكارى، وأنتم الآن تقودون سكارى»، «..لقد فقدتم الصلة بالواقع تماما».

كان هذا منذ نحو ثمانية أشهر تقريبا، فما الذي حدث منذ ذلك الوقت؟ ازدادت حكومة نتنياهو تعنتا، وواصل رئيسها ألاعيبه وحيله لتجريد هذه العملية من أي محتوى حقيقي. أليس هو الرجل الذي تباهى قبل سنوات بأنه أفرغ عملية أوسلو من محتواها بالمماطلة وبإدخال تفسيرات على الاتفاق تعطله، بل وتحبطه تماما؟ لهذا فإن نتيجة جولة المفاوضات الجديدة معه لم تكن متناقضة مع سجله المعروف في التحايل على السلام، وفي دعم الاستيطان، ومع سعيه للحصول على استسلام وتسليم بكل مطالب اليمين المتطرف بما فيها الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وبالقدس عاصمة «أبدية موحدة» لها، وبإيجاد صيغة للتخلص من فلسطينيي إسرائيل ومنع عودة اللاجئين.

المفارقة اللافتة أنه بعد ثمانية أشهر من ذاك الموقف مع بايدن، جاء الإعلان عن مشروع يكشف أن السلطات الإسرائيلية تناور مجددا في موضوع مفاوضات السلام وتتمسك بمواصلة البناء الاستيطاني رغم ضغوط إدارة أوباما عليها، ورغم تلويح الرئيس الفلسطيني محمود عباس باللجوء إلى خيارات أخرى. ففي الوقت الذي يوجد فيه نتنياهو في الولايات المتحدة لحضور مؤتمر المنظمات اليهودية في شمال أميركا وعقد لقاءات مع المسؤولين الأميركيين، كشفت منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية، أول من أمس، أن بلدية القدس وافقت على بناء 1300 وحدة سكنية جديدة في القدس الشرقية. المفارقة الثانية أن هذه الخطوة جاءت بعد مخاطبة بايدن لمؤتمر المنظمات اليهودية، ولقائه مع نتنياهو، وقبيل لقاء المسؤول الإسرائيلي مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ومع جورج ميتشل، مبعوث الرئيس أوباما للشرق الأوسط.

فإذا كانت إدارة أوباما تريد الضغط على نتنياهو لكي يمدد تجميد البناء الاستيطاني، فإن المتطرفين الإسرائيليين، وهم حلفاء نتنياهو الذين يشكلون عمقه الانتخابي، يبعثون برسالة أخرى، مفادها أن التوسع الاستيطاني لن يتوقف، وأنه مقابل ضغط واشنطن على رئيس الوزراء الإسرائيلي، فإن هناك ضغطا في المقابل من أجل مواصلة البناء الاستيطاني. هذا هو تبادل الأدوار الذي يمارسه نتنياهو مع اليمين المتطرف المتحالف معه، بهدف إحباط أي ضغوط أميركية، ولفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض.

حتى تعيين نتنياهو للمتطرف أفيغدور ليبرمان وزيرا للخارجية يبدو خطوة مدروسة. فرئيس الوزراء الإسرائيلي المراوغ يعرف أن ليبرمان بتصريحاته العنصرية المتطرفة والمعادية للسلام وللعرب، سيجعله (أي نتنياهو) يبدو كحمامة سلام، أو كرجل راغب في تقديم تنازلات لكنه مكتوف اليدين خوفا على حكومته من السقوط إذا انسحبت منها الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة المعارضة لأي وقف للبناء الاستيطاني. لكن الواقع أن نتنياهو لا يختلف عن ليبرمان في تطرفه وفي رؤيته للاستيطان ويهودية الدولة ورفض العودة للاجئين الفلسطينيين.

وحتى لا يقرأ البعض لطمة الإعلان عن البناء الاستيطاني الجديد على أنها موجهة لإدارة أوباما فقط، يجب الإشارة إلى أن هذا الإعلان، أول من أمس، جاء متزامنا مع انتهاء مهلة الشهر التي أعلنتها الجامعة العربية لكي تسوي واشنطن مع الحكومة الإسرائيلية مسألة تمديد تجميد البناء الاستيطاني. فنتنياهو لا يكترث بالمهلة العربية، ولا بتهديدات أبو مازن، وربما يسعده أن يوقع إدارة أوباما في حرج مع العالم العربي. وهو يشعر أنه قادر على المناورة ويتباهى بأنه يعرف أميركا جيدا ويستطيع الإفلات من ضغوطها، ومواصلة مناوراته وسياساته. والرجل بلغ حدا من الغطرسة جعله يرد حتى على الانتقادات من قبل أوساط يهودية أميركية بقوله «إننا ربما خسرنا توماس فريدمان، لكنني لا أعتقد أننا خسرنا أميركا».

نحن بالفعل أمام سكارى يقودون سيارة في طريق قد تكون نهايته دفع المنطقة نحو هاوية سحيقة.