العالم الثالث يداوي جراح العالم الأول

TT

ثمة ظاهرة لافتة تحدث في الزمن الأكثر تعقيدا سياسيا واقتصاديا للدول المندرجة في بند العالم الأول مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وهي دول كادت ترفع الراية البيضاء جراء شدة الأزمة المالية وكثرة العاطلين عن العمل. ومن المؤشرات على الأزمة مظاهرات هنا واعتصامات هناك وإضرابات هنالك، حتى إن المظاهرات التي شهدتها فرنسا طوال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2010 وضعت «جمهورية ساركوزي» على شفير أحد احتمالين أحلاهما - لجهة الجدوى - مُر. فهو إذا عاند ستتحول عاصمة النور باريس ومدن أخرى إلى ميادين للعنف والمطاردات تعيد إلى الأذهان ما سبق أن حدث عام 1968 ولم تنحسر إلا بعدما احتكم الرئيس الجنرال شارل ديغول إلى العقل الراجح بدل العنفوان الصارخ مفضلا التضحية بمهابته وهو القائل «فرنسا.. أنا» على أن تسود الفوضى جمهوريته التي وضعت فرنسا على طريق تنظيف نفسها من أدران الحقبة الاستعمارية ونقشت اسمها في السجل الدولي الذي يضم أسماء قادة يريدون الصداقة على قاعدة الاحترام ويرفضون طأطأة الرأس للعم سام. وهو إذا تراجع (أي ساركوزي) فإنه لن يذوق طعم تجديد الولاية وسينتهي مجرد حالة رئاسية عابرة بوغت بها الفرنسيون نتيجة مناورات باهتة وجياد تنقصها الحيوية للفوز في سباق الرئاسة.

فجأة يحل يوم الخميس 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 المارد الصيني في شخص هو جينتاو رئيس أم الدول الكبرى ضيفا على فرنسا الساركوزية، وفجأة تتبدد الغمة الاقتصادية والفرنسية المالية بفضل ضوء من التنين الأصفر في صيغة اتفاقات مليارية (نحو 23 مليار دولار) أبرمها الرئيس الصيني الزائر مع فرنسا الساركوزية في مجالات البتروكيماويات والوقود النووي وفي عشرات طائرات الركاب الحديثة «إيرباص 102» ابتاعتها الصين وحققت بالصفقة الكبرى لفرنسا الساركوزية حلا له صفة الإنقاذ لأنه سيوفر فرص عمل كثيرة ويحمي إحدى أبرز صناعاتها الاستراتيجية من صواعق مالية.

وعلى ما يجوز التوقع فإن هجمة صينية على العقارات في فرنسا، وبالذات بعد أن يعرف الصينيون أن رئيسهم معجب بالشاطئ اللازوردي بدءا بعاصمة هذا الشاطئ مدينة «نيس» التي طلب من مضيفه ساركوزي زيارتها، وصولا إلى بقية مدن جنوب فرنسا المتكئة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وستكون هذه الهجمة مثل الهجمة الروسية على العقارات في بريطانيا وكيف أن أسعار الشقق والبيوت سجلت ارتفاعا غير مسبوق نتيجة اندفاع أثرياء جدد، أو أثرياء التحول من الشيوعية إلى مشارف النظام الحر، اقتحموا سوق العقارات في بريطانيا واشتروا مئات الشقق والبيوت في العاصمة لندن وفي بعض المدن والمناطق الريفية، وبذلك بات سعر الشقة أو البيت المستقل عشرة أضعاف السعر سابقا.وكان لافتا أن الرئيس الصيني اتفق مع الرئيس ساركوزي على شراكة استراتيجية، بما يعني أن المجالات تبدأ بالغذاء والعطور وتنتهي بالطاقة النووية وما بينهما من مجالات حيوية. كذلك كان لافتا أن الرئيس الصيني الزائر يتطلع إلى «لوبي» رئاسي فرنسي يعزز العلاقة بين البلدين، ومن أجل ذلك طلب أن يلتقي بالرئيس السابق جاك شيراك فيزوره هذا الأخير في مقر إقامته في فندق جورج الخامس الذي هو ملكية طرف من العالم الثالث، شأنه في ذلك شأن الفندق الآخر الأكثر أهمية «كريون» الذي آلت ملكيته إلى طرف من العالم الثالث أيضا. وبهذه الملكية تتحقق نسبة وإن ضئيلة من مداواة العالم الثالث لإحدى أهم مدن العالم الأول باريس عاصمة النور.

وفي نيودلهي عاصمة الهند إحدى منارات كتلة عدم الانحياز سابقا وثالث أكبر اقتصاد في القارة الصفراء يلقى الرئيس باراك أوباما الذي بدأ بها يوم السبت 6 نوفمبر 2010 جولة آسيوية تشمل إندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية، كاظما الخيبة الناشئة عن خسوف ربما يطول في مهابته نتيجة انتزاع الحزب الجمهوري منه في الانتخابات النصفية الشأن الذي كان للحزب الديمقراطي وبذلك بات الجمهوريون مسيطرين على مجلس النواب وقادرين على إضعاف الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، إسعافا أوليا من جانب الحكم الهندي تمثل بإبرام عقود بقيمة عشرة بلايين دولار من شأنها تحقيق بعض الحلول لمشكلة البطالة المتفاقمة في الولايات المتحدة من خلال تأمين خمسين ألف فرصة عمل.

ومن الواضح أن أهل الحكم الهندي قدروا في أوباما طريقة تعامله مع الهزيمة وكيف أنه تصرف مثل الرئيس جمال عبد الناصر عندما مني بهزيمة 4 يونيو (حزيران) 1967 مع فارق أن عبد الناصر توجه إلى الإذاعة والتلفزيون ليعلن من خلالهما كامل مسؤوليته عن الهزيمة وقراره التنحي من منصبه كرئيس والنزول إلى الشارع يناضل مع الشعب من أجل إزالة آثار العدوان الإسرائيلي (في اليوم التالي عاد عن التنحي) في حين أن أوباما اكتفى بالقول في مؤتمر صحافي يوم الأربعاء 3 نوفمبر 2010 مباشرة بعد إعلان النتائج رسميا «إن الهزيمة تبعث في النفس شعورا سيئا، وأعتقد أن علي أن أتحمل المسؤولية المباشرة عن أننا لم نحرز التقدم الذي كان علينا أن نحرزه، كما أعتقد أن الاقتصاد هو أكثر ما يقلق الناس لأننا لم نحقق تقدما كافيا في شأنه، وعلي أن أقوم بعمل أفضل، تماما مثل ما يفعل الجميع في واشنطن. وبالنظر إلى المستقبل أرى أن الأميركيين قالوا إنه ليس بإمكان أي حزب أن يفرض منظوره من الآن فصاعدا وعلينا أن نجد الجوامع المشتركة لنتقدم معا حول بعض التحديات غير العادية، وإنني أتطلع إلى الجلوس مع قادة الحزبين الديمقراطي والجمهوري لبحث كيفية التقدم، وأن الشعب الأميركي ينتظر من الطرفين التركيز على كل ما يؤثر على وظائفهم وأمنهم ومستقبلهم وتخفيض الدين ودعم مشاريع الطاقة النظيفة والاستثمار في التكنولوجيا التي تسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على تنافسيتها في الاقتصاد العالمي، فالمنافسة الأساسية ليست بين الجمهوريين والديمقراطيين ولكنها بين أميركا والمنافسين الاقتصاديين في العالم. ولكي نفوز في هذه المنافسة ونحتفظ بالريادة الاقتصادية علينا أن نتحلى بالقوة والوحدة». كما أن أهل الحكم الهندي قدروا في أوباما الآتي إليهم مهزوما استهلاله زيارة الهند بمدينة «مومباي» قبل نيودلهي وإقامة زوجته في فندق «تاج محل» الذي استهدفه اعتداء إرهابي يوم 26 نوفمبر 2008. كما قدروا توقيع رئيس الدولة الأكبر في سجل التعازي بضحايا الفندق.

ما جناه أوباما من الهند سيجنيه أقل أو أكثر من إندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية ومن الصديقة المملكة العربية السعودية (30 طائرة «بوينغ» جديدة تساهم في إنعاش أكبر شركة مصدرة في أميركا)، وهي عمليا ليست من دول العالم الأول وأقرب إلى العالم الثالث، الذي بدأت بعض دوله تضخ استثمارات قطَرية إلى بريطانيا المثقلة بالارتباك المالي ومثيلتها إيطاليا التي دقت الباب السعودي ووجدت من يفتح لها الباب بحسابات دقيقة (التفاهم على رفع مستوى التبادل خلال سنوات إلى 15 بليون دولار) كي لا تبقى البهلوانية البرلسكونية في التعامل على نحو ما هي عليه تضر ولا تنفع. وبسؤال أهل الحكم الليبي يمكن استنتاج الإجابة الوافية.