قلق الملالي في مدينة قم

TT

لا يمكن اعتبار علي خامنئي، المرشد الأعلى لإيران، من ضمن هواة السفر، فلم تطأ قدمه خارج إيران منذ عام 1988، ربما بدافع الخوف والقلق من مذكرة التوقيف الدولية التي أصدرها بحقه «الإنتربول» نيابة عن حكومة ألمانية أدانته بتهمة إصدار أمر باغتيال منشقين أكراد في برلين، وكذلك يتردد في التنقل داخل إيران ويعزل نفسه في قصر في سفح البرز. ولذا يبدو من المفاجئ أن يجد المرشد الأعلى وقتا لزيارة مدينة قم، وهي مركز يبعد نحو 90 ميلا عن جنوب طهران، في مناسبتين خلال الشهر الحالي.

وتمكن خامنئي، الذي نصب نفسه ولي أمر المسلمين كافة، وبالتالي يجب أن يظل مشغولا للغاية، من قضاء 12 يوما في مدينة مفتوحة على صحراء الملح العظيمة. ومن المؤكد أن صحراء الملح العظيمة ليست مكان الجذب السياحي الوحيد في مدينة قم. وتضم المدينة ضريحا كبيرا بقمة ذهبية رائعة يفترض أنه يحتوي على رفات فاطمة المعصومة، شقيقة علي بن موسى، الإمام الثامن من أئمة الشيعة الإثني عشرية.

وتوفيت فاطمة وهي في التاسعة من عمرها من مرض الدوسنتاريا، وهي في طريقها إلى مدينة مشهد شمال شرقي إيران، حيث دفن أخاها. وقرر ملوك قاجار في القرن الثامن عشر تحويل مدينة قم إلى مركز رئيسي لتدريس المذهب الشيعي ومقصد للحج، وكان السبب وراء ذلك فقدان إيران مدينتي النجف وكربلاء، أكثر المدن الشيعية «قدسية» في بلاد النهرين للعثمانيين. وكانت مدينة مشهد أقل جذبا لقربها من الحدود مع آسيا الوسطى، مما يعرضها لغارات التتار والأوزبك وقبائل التركمان.

وبدأ تأسيس حوزات علمية محترمة في مدينة قم في عشرينات القرن الماضي، وأخذت تجذب الطلاب من جميع أرجاء العالم، ولم يمر وقت طويل حتى تم إعلان الملا آية الله العظمى بروجردي، الذي يعيش في قم، أعلى سلطة دينية للشيعة لأول مرة.

ومنذ ذلك الحين أصبحت مدينة قم، على الرغم من الكثير من التقلبات، مركزا دينيا رئيسيا، حيث يوجد في مدينة قم 52 حوزة فيها نحو 60 ألف طالب، وتضم 247 مركز أبحاث، يعمل فيها أكثر من 5 آلاف شخص. وتجذب المدينة وقرية جمكران، التي تعد من ضواحيها ويقال إن الإمام الغائب له خط اتصال مع المؤمنين عبر بئر فيها، نحو 10 ملايين زائر سنويا.

لكن هناك شعورا بعدم الراحة حاليا في المدينة لسببين: الأول هو المنافسة المتصاعدة مع النجف وكربلاء في العراق، فمنذ إعادة فتح الطريق إلى المدن «المقدسة» في العراق عام 2003، زار العراق نحو 12 مليون حاج، كثير منهم من إيران.

والمثير في الأمر هو زيادة توجه عدد الطلاب والمعلمين من مدينة قم إلى النجف، حيث تشير بعض التقديرات، التي لم يسع التأكد منها من مصدر محايد، إلى إعادة تمركز نحو 4 آلاف معلم وطالب في النجف وكربلاء. وما قد يثير قلق ملالي إيران الذين على صلة بالحكومة، هو نظر عدد متزايد من الإيرانيين إلى آية الله علي محمد السيستاني، بصفته مرجع التقليد في الشؤون الدينية. وما يمثل مشكلة للملالي الموالين للحكومة، هو إقامة السيستاني في مدينة النجف ورفضه دعوات لزيارة إيران على الرغم من كونه إيراني الجنسية.

وقد يكون السيستاني أكثر رجال الدين شعبية في إيران، في حين تمثل إقامته في مدينة النجف قوة تجذب الانتباه والموارد بعيدا عن مدينة قم.

وينشط ممثلو السيستاني في أكثر من 30 مدينة في إيران، حيث يجمعون سهم الإمام، وهي تبرعات من المؤمنين.

لا يعد السيستاني أعلى رجل دين يكسب النجف هذه الأهمية، بل تضم المدينة أيضا الكثير من آيات الله، بعضهم من أصول إيرانية.

وتعد النجف الآن موقعا مزدهرا لأعمال البناء التي يمول الجزء الأكبر منها مستثمرون إيرانيون. وبعد تحرر مدينة النجف من تدخل الدولة، تتجه الآن إلى استعادة الحلم الشيعي بتكوين نخبة من رجال الدين لا يتلقون أموالا من الحكومة، مما يمكنهم من الوقوف كقوة مضادة نيابة عن المجتمع.

السبب الثاني للإحساس بعدم الراحة في مدينة قم هو ازدياد عدد علماء الدين رفيعي المستوى، الذين يتبنون موقفا نقديا صريحا ضد الحكومة، حيث لا يخفي آيات الله العظمى مثل صانعي وبيات ودستغيب معارضتهم لنظام الخميني.

وقد تضاءل حجم المؤيدين لعدد من الملالي الموالين للحكومة، مثل مصباح يزدي ومكارم شيرازي مع أجواء معارضة النظام منذ الانتخابات الرئاسية في 2009.

وما يجعل الأمر أكثر سوءا هو أن أيام المساومات مع آيات الله وطلبة علوم الدين لم تساعد خامنئي على الحصول على الاعتراف بزعمه أنه آية الله.

ولم يحصل خامنئي على تعليم نظامي، لدوره في النشاط السياسي السري، الذي تسبب في دخوله السجن ونفيه في الداخل عدة مرات، ويعني ذلك أنه تعلم بنفسه.

ولا يوجد شك كبير في أن خامنئي أفضل تعليما من الخميني عندما حاز على لقب آية الله عام 1963.

ولم يكن الخميني يستطيع كتابة فقرة واحدة باللغة الفارسية دون أخطاء في التهجئة أو النحو، ولم يكن يستطيع التحدث بشكل سليم، على عكس خامنئي، الذي يكتب ويتحدث ويلقي خطبا بالفارسية بشكل سليم. وعلى الرغم من قضاء الخميني سنوات في مدينة النجف، فإنه لم يتعلم اللغة العربية، في حين يجيد خامنئي اللغة العربية التي تعلمها دون معلم، وتعلم كذلك الإنجليزية بمساعدة شرائط تسجيل خاصة بتعليم اللغة ذاتيا.

ومن الناحية السياسية يعد خامنئي أعلى سلطة في إيران، لكن حين يتعلق الأمر بالتسلسل الهرمي الديني فلا يمكنه التظاهر بأنه آية الله إلا إذا حقق عدة شروط، وأولها الحصول على الاعتراف بآيات الله بأنه على قدرهم نفسه، ولا يمكن أن يحدث ذلك دون نشره «رسالة» وعليها طابع بالموافقة من أحد آيات الله العظمى على الأقل.

وكانت وسائل الإعلام الإيرانية تنشر خلال السنوات الثلاث الماضية بين الحين والآخر، أن خامنئي قد أكمل رسالته، لكن لم تظهر أي علامة تدل على ذلك خلال زيارته لمدينة قم الشهر الحالي. وقابل بعض طلبة علوم الدين «المرشد الأعلى» بصيحات ساخرة بقولهم: «أين رسالتك؟».

ومن الواضح أن النظام يفقد ثقة ودعم المدينة «المقدسة» ببطء لكن بثبات. وبالإضافة إلى ذلك، لا تعتزم الحوزات قبول الزعم بأن خامنئي ينبغي الاعتراف به وليا لأمر المسلمين بسبب موقعه السياسي. ويساور الكثير من ملالي مدينة قم القلق بشأن ارتباطهم بنظام سياسي قد يكون في طريقه إلى زوال، فبينما يتبرأ البعض من النظام الحاكم، يحاول آخرون عدم قصر المراهنة على جانب واحد، ولا يزال يفكر آخرون في الانتقال إلى مدينة النجف.

لقد حاول خامنئي تهدئة الأعصاب، لكنه ربما زاد من توتر مدينة قم، فبحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا)، قال خامنئي للملالي الحاضرين في أحد الاجتماعات: «إذا ذهبنا، ستذهبون جميعا» وهو ما يعد شيئا غير مطمئنا على الإطلاق.