الانعكاف على الأوهام: تكون السلطات الجديدة والعودة إلى الماضي

TT

جاءت الحرب الباردة - التي نشبت في مطلع الخمسينات من القرن الماضي - بسلطات جديدة إلى العالم العربي، وفي المشرق والمغرب. وهذه السلطات ما تزحزحت عن مواقعها بعد ذلك بغير انقضاء العمر، لكن حتى في هذه الحالة؛ فإن ابن الرئيس أو أخاه أو أحد أتباعه هو الذي حل محله، إلى أن كان غزو العراق وإسقاط نظام الحكم فيه من جانب الأميركيين، وها هي السلطة الجديدة، وبعد مخاض استمر لسبع سنوات، تحاول أن تتكون، فهل يعتبر ذلك إيذانا بانقضاء مرحلة الحرب الباردة، التي انقضت في سائر أنحاء العالم منذ عقدين إلا عندنا؟ إذا كان الأمر كذلك؛ فإن المرحلة الجديدة لتكوين السلطة، لا تزال تعاني من صعوبات جمة لسببين: عدم اللجوء فيها إلى الآليات المتعارف عليها في ديمقراطيات المشاركة، وميل القادمين الجدد إلى السير على المناهج التي عرفوها من جانب أسلافهم في الحرب الباردة!

إن المثل الفاقع على العوائق المحيطة بتكون سلطة جديدة، هو العراق. فقد انقضت على الانتخابات النيابية ثمانية شهور طويلة، وما استطاع «الفائزون» في الانتخابات تشكيل حكومة جديدة، بعد الاتفاق على «الرئاسات» الثلاث، وانعقاد مجلس النواب المنتخب. إن الطريف والظريف، أو غير الظريف، أن الفائزين الرئيسيين في الانتخابات الأخيرة، هم جميعا ممن عادوا إلى العراق مع الغزاة الأميركيين، وعملوا معهم منذ اللحظة الأولى لحلولهم في بغداد. وتبعا لهذه «الفضيلة» فليس هناك أحد أولى من أحد بالمشاركة في تكوين السلطة الجديدة التي أسسها الأميركيون. ولذا كان لا بد من الاحتكام إلى مقاييس وآليات أخرى، وتمثلت في عدة عوامل ظاهرة ومستترة: الفوز في الانتخابات، والاستنصار بالدعم الإقليمي، وإيقاظ حساسيات داخلية طائفية وجهوية. وهكذا فإن الحصول على أكبر عدد من النواب في المجلس الجديد، ما كان كافيا لكي يستطيع إياد علاوي تشكيل الحكومة الجديدة؛ وبخاصة أن السوريين الذين دعموه في الانتخابات، ما لبثوا أن تحولوا باتجاه المالكي، تحت الضغط الإيراني، من ضمن «التحالف الاستراتيجي» الذي يضمهم مع إيران. وما عاد لعلاوي أمل في معادلة الضغوط الإقليمية إلا بالاستناد إلى السعودية وتركيا. وهكذا، فإنه إذا كان من ضمن سلبيات النظام السابق عداؤه لجواره العربي والإقليمي؛ فإن من وجوه ضعف وعوائق النظام الحالي تأثره الشديد إلى جانب الأميركيين بالجوار الإقليمي الإيراني، وتحكم العقلية الفئوية والاستبدادية للنظام السابق فيه. وبحسب الدستور الجديد للعراق فالنظام فيدرالي، ولذا من المستحسن أن تكون السلطة المركزية قوية إبقاءً على حد أدنى من الوحدة. بيد أن السياقات التي تتحكم بالعراق الآن، تجعل المركزية القوية التي يصر عليها الدستور لرئيس الوزراء خاصة بالمناطق العربية من العراق؛ في نظام يشكل فيه الأكراد، هم والإيرانيون، بيضة القبان. ولذا فإن التكون الجديد للسلطة دونه عوائق، لا تتعلق بنصوص الدستور، بل بالواقع الراهن على الأرض، الذي يتحكم فيه أمران: الذهنية السابقة للسيطرات الفئوية، والتأثيرات الإقليمية على الوقائع الداخلية.

والمثل الآخر على عوائق تكوين سلطة جديدة، تتلاءم وثقافة ووقائع ما بعد الحرب الباردة: المسألة السودانية؛ التي تعاني من أخطار انفصال الجنوب، ومن استمرار النزاع الداخلي بدارفور، ومن إدانة رئيس النظام من جانب المحكمة الجنائية الدولية. وقد ظهرت هذه السلطة في انقلاب عسكري عام 1989، وأثارت باسم الإسلام تارة، وباسم ما لا اسم له ولا عنوان تارة أخرى، مشكلات مع كل الجوار الأفريقي والعربي. ثم اضطرتها وقائع الجنوب ودارفور للانحناء أمام الضغط الخارجي الإقليمي والدولي. لكنها ما انحنت ولا مالت إلى إشراك أحزاب الشمال، التي كانت تحكم بالأغلبيات الانتخابية قبل الانقلاب. وهكذا؛ ففي واقع يضطرب ويتفكك إلى ما لا نهاية، لا تزال تلك السلطة تتشبث بعقلية التسلط السابقة في الرقعة المتضائلة التي تسيطر فيها، بلا تعديل ولا تبديل.

والنموذج الثالث على العوائق أمام التغير والتطور السلطوي في حقبة ما بعد الحرب الباردة؛ هو النموذج اليمني. فالرئيس علي عبد الله صالح الباقي في السلطة منذ عام 1979، كانت لنظام حكمه فوائد ومآثر لا يمكن إنكارها، مثل الاستقرار الطويل الأمد، ومثل تحقيق الوحدة مع الشطر الجنوبي من البلاد. وقد أصغى في بعض فترات حكمه إلى «الآليات» شبه الديمقراطية، وكان هناك حرص من جانبه على المشاركة إلى حدود معينة. لكن النظام غرق في العقد الأخير في ممارسات كان اللجوء إليها مقبولا في الثمانينات، لكنه لم يعد مقبولا الآن. وكانت نتيجة ذلك ظهور ثلاثة أنواع من المتاعب: الحوثيون في الشمال، والحراك الجنوبي في الجنوب، و«القاعدة» في الوسط وحدود الجنوب. وبدلا من تغيير الممارسات أو إحداث تغيير في السلطة، اعتمد الرئيس على القوى التي تتضرر من «القاعدة» ومن الحوثيين، لمكافحة تلك الظواهر، ودعم نظام حكمه. والواقع أن حركة الحوثيين، وحركة الجنوبيين، يمكن معالجتهما داخليا وبالوسائل والآليات السياسية. وكذلك الأمر إلى حد ما مع «القاعدة»، التي تؤويها قبائل يمنية لم تعد علاقتها حسنة بالنظام. لكن رغم ذلك كله؛ فإن العلة ليست في عدم استخدام هذه الآلية أو تلك؛ بل في أن السلطة تحتاج إلى تكوين جديد تتوافر فيه أقدار من المشاورة والمشاركة والانضباط والاستمرار؛ إذ لم تعد تكفي في ذلك آليات الإرضاء والاسترضاء التقليدية.

على أن التكوين الجديد للسلطة في العالم العربي، للتلاؤم مع مرحلة جديدة في تاريخ العالم وحاضرة، لا يحول دون تحققه إصرار المتربعين على كراسي السلطة والسلطان على البقاء وإن هلكت البلاد والعباد وحسب؛ بل يحول دون ذلك أيضا الارتداد الاجتماعي في بعض الحالات إلى مراحل ما قبل الدولة أو ما قبل الدولة الحديثة. فمن مظاهر الارتداد إلى ما قبل الدولة ما يحدث في الصومال منذ عقدين، وفي اليمن منذ عقد ونيف. فقد تعاملنا منذ عقود مع القبلية باعتبارها ظاهرة استثنائية في طريقها للضعف والزوال. لكنها تعود لتبرز في بعض الحالات بوصفها مكونا اجتماعيا وسياسيا بارزا. وقد غذى الأميركيون هذه الحالة في العراق، لخلق تضامن ضد الزرقاوي و«القاعدة». وكان نظام الرئيس صدام حسين يستخدمها لعلل أخرى. وقد ظننا وقتها أن الأمر يقتصر على مظاهر وعي زائفة يصطنعها النظام أو يصطنعها الأميركيون. إنما الواضح الآن أن هناك تنظيرا للقبلية باعتبارها بديلا للتعصب الديني والمذهبي، وبديلا للديكتاتورية وأنظمة التسلط. ومن مظاهر العودة إلى ما قبل الدولة الحديثة، ما يحدث في لبنان والكويت. إذ يحل التضامن المذهبي والطائفي، محل آليات الدولة والنظام وإداراتهما. والتضامن المذهبي أو العرقي معروف ومقبول حتى في الدول المعاصرة، إنما تحت سقف النظام، ولتقوية المشاركة. بيد أن الأمر في لبنان وأخيرا في الكويت (حيث لا اضطهاد مذهبيا أو عرقيا) يتجاوز التضامن لتقوية المشاركة والتأثير، إلى الاعتداء على نظام الدولة ذاته، ودونما علل مقنعة. وهذا الأمر يضيف صعوبات إلى مخاض تكوين سلطات جديدة في العالم العربي.

إن تكوين السلطة الجديدة في العالم العربي، لن يتم بمعزل عن العالم؛ بل هو استجابة لمتغيراته. لكن التأثيرات الخارجية لا تستطيع استغلال الخصوصيات الإثنية والمذهبية وحدها، في إقامة سلطة جديدة؛ قد تكون في «تسلطيتها» أسوأ من الأنظمة السابقة، أو أنها استمرار لها بقالب جديد.