مأساة جيل الستينات من القرن العشرين

TT

إنه الجيل الذي خدع. ولأنه مجني عليه أصبح جانيا، مثل الذي تحول إلى مصاص دماء بعد أن مص رقبته مصاص دماء أصلي!

كانت 23/7/1952 في بدايتها، حينما كان أبناء هذا الجيل في سن المراهقة يحملون أحلاما بتغيير ثوري، توقعوه منها، ينقذ البلاد من نظام فاسد؛ من كوارثه الكبرى هزيمة عسكرية مروعة عام 1948، تسببت في نكبة فلسطين وقيام كيان صهيوني غاصب. ولا يلام جيل الستينات على ذلك، فقد تعلم تعليما موجها، قبل إدراكه أن الخاطفين لحلم التغيير الثوري جهلة ومتعالون؛ ينطقون الأخطاء بزهو شديد، ثم يتم تبريرها بحيث تبدو «كلاما كبيرا» سليما، حتى حانت لحظة اكتشاف حقيقة هذه المجموعة الحاكمة والمسيطرة التي تمص دماء من لا يطاوعها وتنكل به ليصبح مثلها، ولم ينج منها إلا من رحم ربي.

هذا الجيل هو الذي ولد بين عامي 1930 و1940، ولأنه نشأ في عصر الفجوة بين الشعارات السياسية والواقع، والفجوة بين المصطلحات الثقافية والمتلقي، سادت ظاهرة من يقول كلاما لا يفهمه الناس، وهؤلاء ساعدوا على جعل الفجوة أخدودا.

بسبب تعرض هذا الجيل للفكر الماركسي بكل أطيافه، الذي ساعدهم على الرطانة، تولدت الازدواجيات وما يمكن أن نسميه «شغبا فكريا»، بالإضافة إلى من اجتذبهم الفكر الغربي الإلحادي وعرفوا تاريخهم عن طريق المستشرقين، وأغرتهم معارفهم المزيفة لتحقير تراثهم، فأصبحوا مفكرين غير مفكرين، وروادا غير رواد، لا يزيدون عن كونهم «خايلة كذابة» أي جعجعة بلا طحن، تفاقمت مع مرحلة نقد الذات والتنكيل بالذات التي لم تكن ذاتا في الأصل.

هذه مأساة جيل الستينات، وسبب المتاهة التي ما زالت تعيش فيها البلاد.

هو جيل اضطهد نفسه، ومن تميز منه يكره نفسه ويكره زميله الذي تحسنت أحواله، ولا يتعاطف مع زميله الذي تنكست أعلامه.

في جيل الستينات كان هناك من يمكن أن نطلق عليهم «جنود الحلم الثوري» وهم الذين اكتشفوا الزيف السياسي، فعبروا عنه، لكنهم اتفقوا على الرفض، ولم يتفقوا على الحلول؛ فاختلطت عليهم الأمور، بالإضافة إلى تأثر بعض أبناء هذا الجيل بأفكار الجيل السابق عليه؛ المناوئة للفكر العربي والإسلامي. ولا ننسى هنا مسؤولية الماركسية ودورها في صناعة هذه المتاهة، فصبغة الستينات الرئيسية كانت الصبغة الماركسية التي ضللت هذا الجيل، مع أنه لم يصبح جيلا ماركسيا بالتمام، سوى أن الضجيج العالي كان صرخة ماركسية خائبة لم توصلنا لشيء، ولم تحارب سوى نفسها والأفكار الإسلامية وألقت بيننا العداوة والبغضاء.

وصف التحولات السياسية في حياة أبناء هذا الجيل بـ«الانقلابات» غير دقيق، فهي تحولات جاءت بسبب محاولاتهم تصحيح نتائج اندفاعهم وراء الوهم، والإنسان لا يستطيع أن يؤيد الوهم طويلا. فأنا مثلا، واحدة من هذا الجيل، لم أكتشف الخديعة الناصرية إلا في نهايتها، بداية من 6819 بعد النكسة، عندها جرؤت على تسميتها بـ«الخديعة»، لأني كنت قد تصورت أن جنود الحلم الثوري يستطيعون أن يدافعوا عن حلمهم، لكننا تبينا، متأخرا، أننا خدعنا وأننا سرنا في زفة كنا فيها «الأطرش»!