أبا ياسر.. ستبقى في خواطرنا

TT

في عام 1989 استأذنت الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) للقيام بإطلاق قناة تلفزيونية تخاطب العالم العربي. كنت أتطلع إلى صنع إعلام يتجاوز الأفق الموجود. لم أكن أرى صورة «إم بي سي» في أفقها الراهن. كنت أريد أن أقدم عملا مختلفا. مضى وقت طويل من دون رد من الملك. جاءت حرب تحرير الكويت، وخشيت ضياع الفكرة، وأن يسبقنا إليها أحد. في عام 1990 اتصل بي رئيس الديوان الملكي الراحل محمد النويصر. قال: الملك فهد يهديك السلام، وليس لديه مانع لإطلاق المشروع. هو شديد الحماسة للفكرة. لكن الشيخ صالح كامل كان سبق وطلب إذنا من الملك فهد بمشروع محطة تلفزيونية مشابهة لمشروعك. الملك يرى أن تجتمع مع صالح كامل وتتفقا، وتستفيدا من بعضكما البعض، وأن يكون هناك رؤية واحدة تحقق أفكاركما مجتمعة. التقيت صالح كامل واتفقنا على عقد اجتماع للبحث في بلورة المشروع.

كان صالح كامل قطع شوطا في صنع الفكرة. جلسنا، صالح كامل وأنا، إلى طاولة الاتفاق. كان معي الدكتور فؤاد الفارسي، والدكتور عبد الله المصري. والدكتور الفارسي كان يشارك بصفته الشخصية كصديق، وصاحب خبرة. الشيخ صالح كامل كان يجلس في الجهة المقابلة، ومعه الدكتور محمد عبده يماني، وحسين عنان رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون في مصر (وقتها). شعرت بأن شريكي يستعين برجل حصيف ووزير إعلام سابق، ومثقف متميز وكبير، يملك خبرة تنقصنا جميعا. لكن مخاوفي لم تكن في محلها. تجاوز أبو ياسر المصالح والشراكة والشريك والربح والخسارة. تجاوزنا جميعا. التقط فكرة المشروع على نحو مدهش. كان يتصرف بعقلية المثقف الملتزم، والمخلص الفذ. غمرنا جميعا بموقفه الباحث عن مصلحة الأمة والناس. خلال وقت قصير أدركت أن مشروعنا يمثل شيئا مهما لدى الوزير محمد عبده يماني. وهو كان في عمله مخلصا ونبيلا وزاهدا في المكاسب المادية. كنا، صالح كامل وأنا والآخرون، نتحدث عن رؤية عربية لمشروعنا، خاصة أن محطة «سي إن إن» سيطرت على المجال الفضائي في ذلك الوقت. وكان الدكتور يماني يريد هذه وتلك. هو مع التوجه العربي للمحطة، ولم يكن ضد توجهاتنا العربية، لكنه كان يريد استثمار المشروع لمصلحة بلاده.

لن أبالغ إذا قلت إن فقيدنا كان، أحيانا، يعارض صالح كامل في بعض الأفكار. هو لم يكن ضد مصلحة صالح كامل، ولا هو كان يجاملني. كان مع الفكرة، وهمه خدمة قضايا الأمة والدفاع عنها. كان أبو ياسر يفهم دور الإعلام في شكله اليوم. وهمه صنع محطة تجمع العرب في المضمون والإدارة. كان وطنيا بامتياز. أعجز عن اختصار موقفه الكبير في كلمات. أشهد بأنني تعلمت منه بُعد النظر، وسعة الأفق، وقبول المنافسة، وممارسة العمل الوطني.

ليس هذا موقفا للحديث عن ظروف خروج الشيخ صالح كامل من مشروع «إم بي سي»، فضلا عن أن المقام لا يتسع للحديث عن دور كل من الشيخ صالح كامل والدكتور فؤاد الفارسي، وعبد الله المصري، وحسين عنان، وبقية الإخوة والزملاء العرب الذين أسهموا في إطلاق «تلفزيون الشرق الأوسط». لكن المقام مناسبة للقول إن الراحل محمد عبده يماني كان له دور رائد ومؤثر في نجاح هذه الفكرة التي تحولت لاحقا إلى أهم مشروع إعلامي في المنطقة. انطلقت محطة «إم بي سي» ومحمد عبده يماني كان معها يسهم بالأفكار، ويسأل عن التفاصيل ويقدم المشورة والرأي. وكنت كلما اتصل بي وتحدث معي أنقل رأيه للملك فهد، وكان الملك (رحمه الله) يقول لي: «هذا يا وليد رجل محب، ووطني، وعنده بعد نظر، تمسك به، الأعمال الكبيرة تحتاج إلى رجال بمستواها».

لا شك في أن الراحل محمد عبده يماني كان رجلا كبيرا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وهو جسّد في تعامله الشخصية السعودية الأصيلة، كان محافظا، متسامحا وبسيطا، وهو مثال متفرد للمثقف الذي يمارس عمله بصدق وعفوية يندر تكرارها. أشعر بحزن عميق لفقد الوزير والمثقف محمد عبده يماني. فقد كان شريكا لنا بالرأي، والنصح، والأخوة الصادقة.

قبل عام أو نحوه تفضل الشيخ عبد المقصود خوجه بتكريمي، وكان الراحل محمد عبده يماني (رحمه الله) أبرز المتحدثين في تلك الأمسية الجميلة. أدهشني أبو ياسر بتواضعه وإيثاره للآخرين على نفسه. لم يتحدث عن دوره وإسهامه في مشروع «إم بي سي». وهذا تواضع عجيب وفذ. في تلك الليلة تعلمت من محمد عبده يماني صنعة الرقي المعنوي والإيثار وكرم الأخلاق. كان من حقه أن يتحدث عن دوره معنا، فهو لن يبالغ لو تحدث عن موقعه المهم في تأسيس المشروع، لكنه توارى. رحم الله محمد عبده يماني. كان شريكا لنا بالرأي والحكمة والحب. كان أكثرنا وطنية وتسامحا. كان سعوديا وعربيا لا يجاريه أحد. طب نفسا أبا ياسر، لن ننساك، ستبقى في خواطرنا.

* رئيس مجلس إدارة

مجموعة «إم بي سي» الإعلامية