الديمقراطية والقانون و«الشاويش»

TT

حكم قضائي أثار الجدل بين فقهاء القانون وعلماء السياسة والمعلقين حول طبيعة العلاقة بين الديمقراطية والقانون.

فالديمقراطية، كبيئة سياسة ونظام حكم، تتشابك وتتعقد كبيت العنكبوت، المنظم بهندسة معقدة يستحيل أن يحدد فيها طرف ما بداية خيط النسيج.

فالقانون يصدره برلمان منتخب كمصدر وحيد للتشريع، والقوانين هي معايير القياس التي يستخدمها القضاء المستقل تماما عن السلطتين التشريعية والتنفيذية (أي الحكومة، وكلها من رئيس الوزراء حتى أصغر وزير نواب منتخبون يحاسبهم البرلمان ويحاسبهم أبناء الدائرة الانتخابية). وأوامر المحكمة ينفذها البوليس الخاضع لمحاسبة الحكومة ولجان البرلمان.

وأحكام المحاكم لا تستثني أحدا في تنفيذها، وهنا يستطيع أصغر «كونستابل» (عسكري بوليس) أن يقبض على وزير إذا جاء أمر المحكمة بذلك، رغم أن الوزير، كعضو برلمان، ربما يكون هو صاحب مشروع القانون الذي أدى تنفيذه إلى القبض عليه. ولهذا شبهت البيت الديمقراطي ببيت العنكبوت، وصاحبه هو «الأمة» فوق كل السلطات (كلمة سعد باشا زغلول زعيم الأمة المصرية)، ولا يمكن ترتيب السلطات في شكل هرمي في الديمقراطيات.

مقدمة لتبسيط التركيبة المعقدة التي أدى حكم محكمة فيها إلى مأزق دستوري بسبب تراكمات عشرة قرون من القوانين والتقاليد البرلمانية في بلد ليس فيه دستور مكتوب، لكن تبديل الحكم والإجراءات وفق تقاليد يتم بدقة الساعة، لم يتغير بصرامة تفوق بلدان الدساتير المكتوبة كأميركا مثلا.

الحكاية أن وزير شؤون الهجرة والجنسية السابق في الحكومة العمالية في بريطانيا؛ وهي وزارة تحتية ضمن وزارة الداخلية «Home Office» (يصعب ترجمة الكلمة لعدم وجود مقابل بالعربية، فهي مكونة من وزارات تحتية كالأمن، وشؤون المجتمع) فاز في انتخابات شهر مايو (أيار) في دائرته (بنسبة 31.9%) بفارق 103 أصوات عن مرشح حزب الديمقراطيين الأحرار (بنسبة 31.6%)، وجاء مرشح المحافظين، وهو مسلم، في المركز الثالث بنسبة 26.4%.

الأحرار الآن في حكومة ائتلافية مع المحافظين، لأن النتائج جاءت ببرلمان معلق لم يفز فيه أي من الأحزاب الثلاثة الكبرى بنصف عدد المقاعد زائد واحد. ولو كانت الحكومة تشكلت بائتلاف الأحرار والعمال، لما كانت المشكلة قد تفجرت أصلا، ولكان الوزير السابق يحتل مقعده في «البنش» الأمامي على يسار منصة مجلس العموم، المخصص لحكومة الظل في صفوف المعارضة.

فنائب الأحرار الذي جاء في المركز الثاني، رفع قضية يتهم فيها منافسه العمالي باللجوء إلى أساليب رخيصة، وووجه إليه اتهامات بأنه مدعوم من الجماعات الإسلامية المتطرفة التي هددت المسلمين - وهم تقريبا ثلث عدد المصوتين في الدائرة - بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا صوتوا لغير مرشح الأحرار، بعد أن اتهموا مرشح المحافظين، المسلم، بأنه ذليل تابع؛ لأن الرجل أدان الإرهاب وعنف تفجير القنابل في وسائل المواصلات في يوليو (تموز) 2005، فنصحوا الناخبين المسلمين بالتصويت لمرشح الأحرار، لكراهيتهم لمسلم مسالم يفضل القانون على الإرهاب.

أما الوزير فافتعلوا شجارا معه لاشتراط وزارته إتقان اللغة الإنجليزية على رجال دين مستوردين من باكستان، كأئمة مساجد، قبل منح التأشيرة لهم.

محامي الادعاء في الجلسة استشهد بعدد من الناشطين - من المسلمين الراديكاليين - وبنماذج من الملصقات وأوراق الدعاية التي وزعها المرشح العمالي وفيها اتهامات لمرشح الأحرار تتعلق بالمصاريف النثرية من البرلمان، وعلاقته بالجماعات الدينية. المحامي طالب أيضا بالحكم ببطلان نتيجة الانتخابات في حالة ثبات التهمة، وهي احتواء أوراق الدعاية على اتهامات غير صحيحة.

الادعاء التجأ إلى عدة سوابق يتعلق بعضها بحوادث نشر حول القذف والتشهير.

من يطالع تاريخ مئات من قضايا القذف والتشهير في المحاكم الإنجليزية، يلاحظ قاعدة برزت بتراكم القضايا والسوابق القضائية، وهي وقوع مهمة إثبات صحة ما جاء في ما نشر بحق المشتكين (أي الادعاء) على عاتق الناشر وكاتب العبارات، سواء كان صحيفة، أو كتابا، أو محطة إذاعة أو موقعا على الإنترنت.

وانطلاقا من هذه السوابق، فإن ملصقات على الجدران يقرأها المارة في الدائرة، أو نشرات توزع عليهم أو في صناديق بريدهم، تعتبر نشرا علنيا.

محامي الدفاع لم يستطع أن يقدم أدلة وبراهين تثبت صحة ما جاء في الملصقات والنشرات. ومن هنا لم تقبل المحكمة بدفاع «حسن النية» بأن النائب العمالي لم يقصد أبدا إهانة الرجل أو التشهير به، بدليل عدم وجود شاهد واحد يثبت أن الوزير السابق تفوه شخصيا بكلمة واحدة تعتبر تشهيرا بخصمه مرشح الأحرار، سواء في خطب أو لقاءات علنية أو برامج إذاعية أو في جلسات خاصة. واعتبرت المحكمة أن النائب العمالي «مستفيد»، بفوزه بأكبر عدد من الأصوات، من حملة التشهير، وحكم بإدانته.

وتضمنت حيثيات الحكم بطلان نتيجة انتخابات الدائرة، مما ترتب عليها حرمان الوزير السابق من مقعده في مجلس العموم.

واضطرت الحارسة الملكية المسلحة «serjeant at arms» (تقليد يعود برلمانيا إلى عهد إدوارد الأول عام 1415 واللقب ابتدع أصلا عام 1189 لرئيس مجموعة الحراسة الملكية في عهد ريتشارد الأول؛ ورئيسة الحراسة الحالية في البرلمان جيل بياي هي أول سيدة في التاريخ تحتل المنصب) لإلغاء بطاقة دخوله خضوعا لأمر المحكمة، فكيف لا تنفذ حارسة كلفها التاج بتنفيذ القانون في مجلس تشريع القوانين، حكما أصدرته محكمة يقف ميزان عدالتها فوق التاج الذي أقسمت بحراسته حتى آخر قطرة في دمها؟

حزب العمال انقسم بين أقلية مع زعامة الحزب تتنصل من الوزير خاسر القضية، وأغلبية تجمع التبرعات لنظر القضية أمام محكمة الاستئناف يوم الخميس القادم.

رئيس البرلمان «Speaker»، اتخذ حلا وسطا في أزمة ليست لها سابقة، وهو تعليق الموقف وتجميد عضوية النائب حتى يفصل القضاء.

والحكاية نهديها لمرشحي الانتخابات البرلمانية المصرية التي سيتم التصويت فيها في نهاية الشهر، ونتمنى تركيز دعاياتهم على مناقشة البرامج السياسة لكل مرشح، والابتعاد عن التجريح والتشهير الشخصي.

الأهم تذكيرهم بحكاية من التاريخ المصري الحديث وقعت ليلة 22 يوليو 1952، حيث اجتمعت مجموعة الضباط الأحرار بناديهم في الجزيرة لتجهيز الانقلاب العسكري (وسموه ثورة يوليو بعد الاستيلاء على الحكم ببضعة أشهر).

فعند مرور الكولونيل (البكباشي حسب الرتب المصرية وقتها) جمال عبد الناصر من شارع قصر النيل متجها للاجتماع أوقفه عسكري المرور وحرر له مخالفة لأن أحد ضوءي تحذير الفرامل الخلفيين في سيارته كان معطلا. وألقى العسكري على أسماع «حضرة البكباشي» محاضرة عن ضرورة احترام القانون وسلامة السيارة.

ولم يجرؤ الضابط، المتجه في طريقه لحكم مصر بعد ساعات، أن يمرر ورقة نقدية للشاويش، فقانون مصر وقتها كان يعاقب الراشي والمرتشي بالحبس سواء كان وزيرا أو ضابطا بالجيش ولا استثناءات.