صراع المُطْلقات

TT

في هذه المنطقة من العالم (الشرق الأوسط) يبدو أننا قد ابتلينا بصراع المُطْلقات. ففي أكثر من سيناريو نشر في وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة، تكرر احتمال وقوع هذا المشهد: رئيس الوزراء الإسرائيلي يهاتف رئيس الجمهورية الأميركي، ويقول له: السيد الرئيس، أردت أن أخبرك - مسبقا - بأن الطائرات الإسرائيلية في طريقها الآن لضرب المواقع النووية في إيران! نعرف نحن الآن من مذكرات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، أن إسرائيل ليست حتى في حاجة للاستئذان، إذا ما قررت فعلا أن تقوم بعمل عسكري أو خلافه يخدم المصلحة العليا لإسرائيل من وجهة نظرها.

اقتراب الجمهورية الإسلامية الإيرانية من مرحلة الوصول إلى امتلاك قوة نووية عسكرية، مهما تواضعت، هو بالنسبة لإسرائيل الخطر الداهم الذي ليس قبله أو بعده خطر. إنه صراع مُطْلقات. بين مُطْلق وجود إسرائيل وتصرفها الأكثر رعونة، الذي ليس له رادع، بسبب تفوقها العسكري والعلمي، ومُطْلق السباق الإيراني، نحو الحصول على قوة نووية عسكرية، الذي يبدو وكأنه معطى الهي.

في حالة حصول إيران على القوة النووية، فإن إسرائيل سوف تبدأ في مشاهدة هجرة معاكسة إلى كل من أوروبا والولايات المتحدة، فالإسرائيليون أو أغلبهم على الأقل، لن يرضوا بأن يبقوا في دائرة التهديد بمحرقة أخرى، بعد محرقة النازية. وهذا يعني هزيمة لفكرة الاستقرار الإسرائيلي في أرض الميعاد، وهزيمة الفكرة تلحقها هزيمة ما بني عليها من دولة، أي إن جيل التأسيس، قد سلم الدولة العبرية لجيل الفناء.

الإيرانيون يرون في سعيهم للحصول على قوة نووية عسكرية، تكريس فكرة الجمهورية الإسلامية، وردع من يحاول زعزعتها من الخارج، ويحقق انتصارا معنويا ضخما، يعوض النقص الكبير في تحقيق الجنة على الأرض، من عمل وصناعة وحياة رخية.

قبل أسابيع نشر كتاب لكاتب إسرائيلي، هو كوهين أفنير، والكتاب بعنوان: «أسوأ الأسرار حفظا» يناقش فيه أهمية أن تصدر إسرائيل الرسمية تصريحا يفيد أن لديها مخزونا من القنابل النووية، وهو السر الذي تحتفظ به إسرائيل قريبا من قلوب عدد قليل من مسؤوليها، حتى الإعلام أو قيادة الأحزاب لا تعرف الحقيقة على وجه اليقين. الفكرة التي يدعو إليها كوهين أفنير، أن التصريح الرسمي بحيازة إسرائيل لرادع نووي، قد يصل صداه إلى طهران، كي تفكر من جديد في المسيرة التي تتخذها!

حيازة إسرائيل لسلاح نووي عرفناه نحن العرب على شاكلة أكثر وضوحا. فالرئيس المرحوم أنور السادات، وفي كتابه «البحث عن الذات»، قال صراحة، إن أهم دافع له في خطواته نحو السلام علمه اليقيني بأن إسرائيل لديها سلاح نووي، وأنها على استعداد لاستخدامه!!

أمام إسرائيل إذن معادلة صفرية، ويبدو أن أمام إيران نفس المعادلة، فأي تراجع الآن أو في المستقبل القريب عن ذلك المسار، سوف يعجل بانهيار داخلي، فاللحمة التي تربط الآن معظم النسيج الإيراني، مهما تعددت المواقف أو اختلفت الاجتهادات، هي البرنامج النووي، لا لأنه هام - وهو كذلك لشريحة من السياسيين الإيرانيين - ولكن، وهو الأهم، لأنه في موقع الفخار الشعبي، والوقوف أمامه أو نقده، يعني انتحارا سياسيا لا شك فيه.

من جهة أخرى فإن حقيقة نشاط إيران في دعم القدرات اللاتناظرية، أي الجهات المرتبطة بها أو المؤيدة لها في الإقليم، أصبحت مرددة في تقارير رسمية وشبه رسمية دولية، على الرغم من كل مشكلاتها الاقتصادية الداخلية، فقد أشارت تقارير من وسائل إعلامية مختلفة، منها «إيران إمروز»، إلى أن حكومة نجاد في المرحلتين الأولى والثانية، قد صرفت ما يقدر بـ123 مليار دولار من رصيد صندوق الاحتياطي الإيراني، إما على دعم قوى صديقة، أو تمويل عمليات غير مرخصة، لاستقدام معدات مرتبطة بالبرنامج العسكري الإيراني، وهو مبلغ ضخم ترى فيه طهران أنه الاحتياطي الاستراتيجي لمعركة المستقبل.

إن أخذنا كل ما تقدم في الحسبان، فإن السيناريو الممكن تصوره، هو سيناريو يوم القيامة. ففي حال توجه إسرائيل لإجهاض البرنامج النووي الإيراني، ستقوم قائمة كل القوى المرتبطة مباشرة بطهران، ومنها المعروف جهارا اليوم، ومنها الخفي المعروف أو المسكوت عنه، ستقوم كل تلك القوى بزعزعة الأمن والسلام في مناطقها من أجل خلق فوضى تربك الجميع دون استثناء، خاصة إذا عرفنا أن القضية المركزية للعرب اليوم وهي فلسطين، بدليل بحث علمي جاد، يقول لنا إن نصف الملايين العرب الذين دخلوا للبحث على الإنترنت، نصفهم دخل يبحث عن معلومات عن فلسطين! ربط الجمهورية الإيرانية بالموضوع الفلسطيني سوف يجلب لهم عاطفة مؤيدة كبرى.

هل هو سيناريو يوم القيامة، أي حرب تفوق كل الحروب؟ ربما، إلا أنه صراع لو وقع، سيعيد في نهايته تشكل خارطة المنطقة كما لم نعرفها من قبل أو نتخيلها.

طرفا الصراع الأساسيان، قد يلجآن إلى طرف ثالث لإجهاض خطط الآخر، أي تحريك مجموعات هنا أو هناك، من أجل بدء حرب غير مقررة أو مدروسة، من أجل خلخلة الخطط الموضوعة واستنزاف الطرف الآخر. وما التسخين الذي نراه اليوم، سواء في العراق أو في لبنان أو حتى فلسطين أو اليمن، إلا مقدمات لاستشعار القوى المختلفة وجس نبضها ودراسة ردود أفعالها.

أمامنا إذن في المرحلة القادمة صراع مُطْلقات، المٌطْلق الإسرائيلي والمُطْلق الإيراني، بجاب المُطْلقات الأخرى التي تتبناها قوى نشطة، في محاولة كنس الآخر المختلف خارج الإقليم، سواء المختلف العرقي أو المذهبي أو الديني، أي مختلف هو هدف للتصفية أما الفكرية أو الجسدية.

أمام هذا المشهد فإن الخلل التحليلي أو عدم القدرة على المقاربة لدى الجانب العربي واضح المعالم، فهو، أي الجانب العربي، قدري بما فيه الكفاية، أمام القوتين النوويتين: الإسرائيلية المحققة، والإيرانية المتوقعة. والثروات الضخمة الموظفة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية على حساب العرب.

المواطن العربي مشغول، يهتف هنا إلى صحافي أرسل حذاءه على رئيس جمهورية، أو يدخل هناك في جدل عقيم، حول مقولة فقيه خارج التاريخ. وقديما قيل: إن الجهل واعظ سيئ.