مسيحيو العراق

TT

كم كان بودي أن تكون هذه المقالة مليئة بالأمل الذي عاهدته كمنهج حياة، وبالتفاؤل الذي اتخذته حليفا في حياتي، ولكن ما جرى ويجري للمسيحيين العراقيين هذه الأيام أحدث مرارة مفعمة بالخجل وشعورا بحرقة فريدة.

زرت وعائلتي لبنان عام 2004. كانت المرة الأولى التي يزور فيها أولادي لبنان الجميل. مرت السيارة بالشوارع فسألتني ابنتي الصغرى: «شلون لبنان عربي وفيه هالكثر كنايس؟»، مستغربة من كثرة عدد الكنائس ببلد عربي! قلت لها: «هؤلاء مسيحيون وعرب قبل أن نكون مسلمين».

يؤلمني قتل الأبرياء في أي مكان في العالم، وراعني مذبحة كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك ببغداد قبل أيام، ولم يكن سبب صدمتي وحزني دين الضحايا الأبرياء، فالبريء بريء أيا كانت ديانته ولغته وقوميته، والمجازر في العراق لم تستثن دينا ولا مذهبا، ولكن الصدمة أن من ارتكبوا المجزرة كانوا يرفعون شعار الإسلام، ويطالبون بطرد المسيحيين أو قتلهم، والمؤلم أن الضحية بلا معين أو سند في محيطه العربي المسلم، اللهم إلا من تضامن إعلامي هنا، وتصريح سياسي هناك، وتنديد يذر الرماد في العيون من ذاك السياسي، وآخر «رفع عتب» من رجل دين مسلم.

المسيحيون العراقيون - دون سائر المسيحيين العرب - أكثر وداعة وسلما من غيرهم، وكانوا منصهرين عبر التاريخ العراقي منذ آلاف السنين مع مجتمعهم، وحتى إبان الخلافة الإسلامية كان منهم الوزراء والعلماء والمقربون من السلطة دون أن يتعرضوا لاضطهاد شبيه لما يتعرضون له هذه الأيام ولأول مرة في تاريخهم. أعرف أن مثل هذا القول قد يستثير الآخرين، ولكن هذه هي الحقيقة عن المسيحيين العراقيين، بل وحتى عن يهود العراق دون سائر اليهود العرب، حيث كانوا أكثر انصهارا وتعايشا مع من جاءهم من المسلمين عبر حقب التاريخ، وعرفوا بالأمانة والصدق ونزاهة التعامل التجاري. وقمنا بطردهم إلى إسرائيل بعد إعلانها شر طردة، فصادرنا أملاكهم واجتثثناهم من أرضهم التي عاشوا فيها آلاف السنين - قبل الإسلام. ولا يزال الإسرائيليون الوافدون من العراق يحنون لبلاد الرافدين حتى يومنا هذا، وبينهم من يعتبرون أنفسهم أكثر قربا للعراق منهم لإسرائيل، وحين تلتقي بأحدهم تشعر بقرب من نوع مختلف على الرغم من أن الذي أمامك إسرائيلي الجنسية.

الجنون القهري بقتل المسيحيين أو تشريدهم من ديارهم، لا يماثله سوى جنون الحركة الصهيونية التي اجتثت الفلسطينيين من أرضهم التي عاشوا فيها آلاف السنين، بل ويطالبون بطرد من بقي منهم هذه الأيام - سواء عرب الداخل أو عرب الضفة - إلى خارج فلسطين!! ما أشبه هؤلاء بهؤلاء! الدعوات الصهيونية المتطرفة بطرد الفلسطينيين تدعي وجود دول عربية عديدة بأراض مترامية يمكنها أن تستوعبهم، ترى! إلى أين يريد «صهاينة العراق» طرد المسيحيين العراقيين؟

ما يتعرض له المسيحيون العراقيون هذه الأيام، هو إخفاق وإعلان فشل لنا جميعا قبل أن يكون مسؤولية لحكومة عراقية منتهية الولاية وعاجزة في كافة المناحي. إن علماءنا وساستنا وحكوماتنا ومنظماتنا الإنسانية مطالبون بتوفير حماية خاصة للمسيحيين العراقيين، لأن فناءهم أو طردهم يعني تبريرا لطرد الفلسطينيين وطرد السودانيين بعد الاستفتاء وطرد فلسطينيي لبنان وغيرهم.

انتابني ألم لموت ضحايا الكنيسة، لكنه ألم يصاحبه الخجل، لم أجد أمر منه إلا قصيدة للشاعر الكويتي الشعبي نشمي مهنا التي منها:

يعني تفجير الحياة ويعني تلغيم الأمل

يعني تكسير الصباح اللي طالع

والترانيم البريئه

وشمس صابوها بشلل.

يعني أُمّه ضاحكه منها الأمم

من زمانات الجهاله

وناقعه بهذا الجهَل.

يعني حقد، ويعني غابه

صاعد لهذي النفوس وفي عقايدها نزل.

وهذا يعني:

أُمّه ما فيها أمل.