رسالة كيسنجر ونصر الله

TT

سوق المؤلفات العربية مليئة بالرسائل والتراجم التي هي من صنع الخيال. معظمها كتب قبل عهد الإنترنت الذي فتح العالم على مصراعيه لنا وصار البحث فيه وظيفة سهلة لمن أراد استقصاء أي مزاعم أو حقائق، يهمه التثبت منها. وعندما قرأ السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، في خطابه الأخير رسالة موجهة من هنري كيسنجر إلى الزعيم اللبناني ريمون إده، اتضح أن السيد نصر الله استشهد برسالة مزورة لم يكتبها كيسنجر ولم يتلقاها إده، واتضح أن الزميل الأستاذ سليم نصار، لا هنري كيسنجر، هو من كتبها، آنذاك، متخيلا كيف يفكر الوزير الأميركي حينها.

صحيح أن معظم ما قاله نصر الله في خطابه ذلك اليوم مليء بالمغالطات واستشهادات، في غير محلها، لكن لا أعتقد أنه وقع في هذه الغلطة الفادحة عن قصد، لأنه سهل اكتشافها، بخلاف ما ينسبه السيد من كلام شفهي عن آخرين، كما فعل عن شيراك أو بوش. ففي العصر الحالي صار سهلا رصد ما كتب، فالمراسلات الرسمية العلنية يمكن مراجعتها عبر الأراشيف الرسمية، ووزارات الخارجية، والكتب المعتمدة من مؤلفيها من كبار السياسيين. وهنا أظن أن السيد نصر الله أراد أن يدعم أقواله الضعيفة بالحجج والبراهين القوية، فوقع في سوء عمل موظفيه الذين أمدوه بالمعلومات الخاطئة، وهو أمر يمكن أن يحدث في أي مكتب سياسي آخر.

وسيدهش القارئ حجم التزوير والتحريف في النقل والترجمة إلى اللغة العربية. فالكثير من المذكرات، والكتب السياسية المهمة، ترجمت إلى العربية «بتصرف» مخل، حيث يتدخل المترجم بحذف ما لا يراه مناسبا، أو ما يخالف توجهاته السياسية. وقد فوجئت أن بعض المؤلفين الغربيين، لا العرب فقط، هم أنفسهم يحرصون عند طباعة نسخة مترجمة إلى العربية على حذف فقرات أساسية منها، زاعمين أنهم يريدون لكتبهم أن تباع في السوق العربية. وهي حجة مرفوضة لأن حذف المعلومات الأساسية فيه تدليس على القارئ، فيبدو المؤلف هنا أنه يوجه اللوم كله إلى إسرائيل مثلا، وهو في النسخة الإنجليزية ينتقد حزب الله أو السلطة الفلسطينية، لكنه يتعمد حذف هذه الفقرات إرضاء للرقيب الرسمي أو حتى لا يخسر علاقاته مع العرب من حوله.

وهناك الصنف الثالث، مؤلفون عرب يقومون بكتابة التاريخ، معتمدين على منقولات من الكتب الغربية بشكل انتقائي، وقد فعلها كبار الكتاب العرب، مثل الأستاذ محمد حسنين هيكل. وقد يكون مبرر اختياره ما يراه مناسبا حتى يعزز القصة التي يرويها، لكنها من حيث الأمانة التاريخية تبقى قصة ناقصة. والصنف الرابع الكتب المترجمة التي لا تعتبر محترمة في أسواقها الأصلية وتوزع في السوق العربية، على أنها مصادر موثوقة. ففي الغرب، كما في السوق العربية، هناك مؤلفون محترمون، ومؤسسات ذات مصداقية عالية، وهناك أيضا كتاب الكتب الصفراء ورواة القصص الخفيفة التي لا أساس لها سوى البيع السريع.

وما قصة رسالة كيسنجر التي انطلت على نصر الله إلا حالة متكررة من الروايات المكذوبة التي تمتلئ بها السوق العربية، وتنطلي على معظم المهتمين بالقراءة. بكل أسف، هذه الكتب والروايات تشكل الفكر العربي الحديث لكثير من المثقفين الذين لا يدرون الحقائق من الأكاذيب، وهذا ما يجعلنا نرى العالم مشوها.

[email protected]