كل مشكلات المنطقة ثقافية وليست سياسية

TT

في هذا المكان وعقب بدء المفاوضات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كتبت أقول إنه لم يحدث من قبل أن كنا قريبين إلى هذه الدرجة من إقامة الدولة الفلسطينية، وبالتالي إيجاد حل لمشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي الذي يبدو بلا نهاية. وذلك بعد أن تصورت أن المفاوض الفلسطيني لن يتزحزح من مكانه على مائدة المفاوضات لأي سبب إلا بعد أن يحصل على ختم الدولة ولتكن المشكلات العالقة بعدها ما تكون. فعندما تتحرك على خريطة العالم كرئيس لدولة فإن ذلك يكسبك مكانا ومكانة يختلفان كثيرا عن حركتك وما يمكن أن تحققه كرئيس لمنظمة أو حكومة في أرض محتلة.

ولم يحدث ذلك، أما الأسوأ، فهو أننا قد وصلنا إلى مرحلة في العلاقة بين الطرفين المتصارعين يعجز الجميع عن إيجاد تعريف لها. وفي لقاء مع مثقفين إسرائيليين وأميركيين في القاهرة هذا الأسبوع تساءلت عما يحدث هذه الأيام بين القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية، فعجز الجميع عن الوصول إلى إجابة محددة. وفي طريقي إلى البيت غرقت في التفكير، لماذا كانت تقديراتي خاطئة؟ لماذا لم تصل المفاوضات إلى الدرجة التي تتم فيها إقامة الدولة الفلسطينية؟ هناك إجابة سهلة للغاية وفي متناول اليد دائما، هي أنني شخص ساذج، وأن سذاجتي حولتني إلى حاطب ليل يظن الثعبان حبلا. أما الأسوأ من ذلك، فهو أنني أفكر دائما في استخدام هذا الحبل كوسيلة للنجاة، أي أنني أفكر في استخدامه كوسيلة لنقل المنطقة كلها إلى طريق الخير والتنمية وحقوق الإنسان. من أين ينبع بداخلي كل ذلك القدر من السذاجة التي تجعلني لا أرى الأمور على ما هي عليه؟

هكذا تخليت عن تحليل الموقف السياسي وانشغلت بإخضاع شخصيتي أنا للتحليل النفسي بحثا عن إجابة شافية، فوصلت إلى أنني أرى الثعبان حبلا ليس بسبب ظلام الليل أو عدم كفاية الإضاءة، بل لأنني أريد ذلك، أريد أن أراه حبلا، أحب أن أراه حبلا، لأنني أريد لنفسي وكل أفراد قبيلتي البشرية في كل مكان أن يعيشوا في سلام منتج يتيح لهم الاستمتاع بالحياة؛ لأنني أصلا لا أتعامل مع الواقع كرجل سياسة بل كرجل مسرح، أي أتحرك على أرض الفن والثقافة. قطار التفكير عندي يقوم من محطة الثقافة الإنسانية العامة وينطلق في خط مستقيم مباشر إلى محطة الوصول. بينما المسؤولون عن حل مشكلاتنا يتحركون على أرض سياسية تحتم عليهم ركوب الطريق الدائري الذي يعود بهم في كل مرة إلى النقطة نفسها التي قاموا منها على الطريق.

هذا هو ما أريد لقارئي أن يفهمه بكل وضوح. أنا أتحرك على أرضية ثقافية بحتة، باحثا عن تحقيق هدف هو بالضرورة ثقافي. هذه هي مهمتي بالتحديد، أما رجل السياسة فهو ينشغل بتحقيق انتصارات على الآخرين يزهو بها أمام ما يسمى الرأي العام في قريته أو مدينته أو بلاده. مهمتي أن أكون صادقا مع نفسي طول الوقت، ولتكن متاعبي من جراء ذلك ما تكون. أما رجل السياسة فهو على استعداد للاستغناء عن صدقه مع نفسه لكي يتجاوب مع أكاذيب الآخرين.

إنني أزهو بأنني أحد تلامذة سقراط، غير أنني بالطبع لا أرحب بأن ألقى مصيره، وأتخيل نفسي أحيانا زميلا لأفلاطون في الفصل الدراسي وقد استغرقنا في الاستماع لهذا الأستاذ العظيم؛ لذلك أقدس الحرية كما أقدس الدولة كأرقى شكل في الحكم وصل إليه البشر للحفاظ على حقوق الفرد والجماعة. لا صلة لهذه الأفكار بالسياسة، هي مشكلات فكرية ثقافية بالدرجة الأولى أو كما يسميها أفلاطون (أدبية). موظف الحكومة أو عضو الحزب يتحرك بدافع من مفاهيم السياسة، أي إجراء الحسابات من أجل مصلحة سريعة أو قريبة أو مؤقتة، أما رجل الدولة فهو يتحرك بدافع من دفقات الحب القوية والرغبة في الوصول إلى خير الناس الأسمى. قل لي بربك، أين تعلم الملك عبد العزيز آل سعود علوم السياسة وفنونها، وأهمها إقامة الدولة ثم الحفاظ عليها؟ إنها الرغبة في الوصول إلى الخير الأسمى للناس جميعا، إنه الحب بأعظم درجاته، إنها عاطفة اعتبار الذات القوية. هذا هو فقط ما يصنع رجل الدولة.. هذا هو فقط ما يقيم الدولة.

عند هذا الحد من التفكير أكون قد وصلت إلى فهم أقرب إلى الصحة، وهو أن مشكلاتنا جميعا، كسكان للشرق الأوسط، هي في الدرجة الأولي ثقافية وليست سياسية. فالمشكلات السياسية عادة توجد لها حلول عبر تسويات تصيب كل الأطراف بالكآبة، غير أنهم يلتزمون بها. أما المشكلات الثقافية فلا توجد لها حلول سريعة وربما لا توجد لها حلول على الإطلاق، هي أشبه بالأمراض المزمنة التي تصاحب البشر إلى أن يواريهم التراب. هكذا يمكن التنبؤ بسهولة أنه لن يحدث شيء حاسم في منطقتنا، ربما لعقود طويلة مقبلة، وبنظرة سريعة على الماضي القريب، سنجد أننا في مصر وصلنا إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل بعد حروب طويلة، ولأن المشكلة أصلا ليست سياسية، عجز مثقفونا عن العثور على أي ميزة فيه، بل وهاجموا الرئيس السادات - يرحمه الله - لأنه استرد لهم سيناء بغير سيادة، سيادتهم لم يتنبهوا إلى أن دخول سيناء قبل 1977 كان يتطلب بالنسبة للمواطن المصري أن يحصل على تصريح من سلاح الحدود، سيادتهم يتصورون أن السيادة تعني حشد المدرعات هناك من دون أن يتذكروا أن ذلك قد حدث بالفعل من قبل، وفشل في الحفاظ على سيناء، سيادتهم يخشون الاعتراف بأنه لا أحد فينا جميعا كان يعرف أن لدينا مدنا اسمها شرم الشيخ وطابا ودهب، ولم يكتفوا بذلك، بل تفرغوا للهجوم على السلام وتحذير الآخرين منه. وتجاوزوا التحذير إلى الابتزاز والتهديد كما جاء في بيان اتحاد النقابات الفنية ضد مهرجان أبوظبي السينمائي الذي تحذر فيه الفنانين المصريين من الاشتراك في المهرجان، بل اتهم البيان أبوظبي بأنها (تجرنا) إلى التطبيع.. يا للخيبة.

يا للرسالة القوية الواضحة التي نرسلها إلى دول العالم أجمع، حتى لو وقعنا اتفاقية سلام مع أي طرف، فلن تجدوا فيها أو معها سلاما. أين السياسة هنا؟ ألم أقل لك إنها مشكلة ثقافية من الأصل؟

بشكل عام، الموقف في المنطقة ككل ليس سيئا بما فيه الكفاية لدفع الأطراف للبحث عن حلول أو تسويات، إيران تنعم بالسلام بعد أن تفرغ السيد نجاد لإنفاق أموال شعبه على الحركات الثورية، الفلسطينيون في الضفة وفي غزة ينعمون بسلام نسبي، والإسرائيليون أيضا يستمتعون بالقدر نفسه من السلام.. يبقى الوضع كما هو عليه، وعلى المتضرر أن يخبط دماغه في الحائط.