العمل الدؤوب لتفجير بركان لبنان

TT

تعيش البراكين داخل الأرض. نادرا ما تتحرك أو تنفجر، لكنها حين تفعل تنتقم من كل ما حولها، ولمسافات بعيدة.. تفعل ذلك ببرود رغم حرارتها الشديدة.

أما في المنطقة العربية، فقد انتهى عهد البراكين منذ مئات السنين، ولم تخلف لنا سوى جبال صلدة جامدة، مثل جبل العرب في سورية، وجبال عدن وحي كريتر الشهير فيها الذي هو في الحقيقة فوهة بركانية ذات أبواب ومداخل. لكن البراكين استبدلت نفسها في المنطقة العربية بأشياء أخرى، أشياء كامنة مثل البراكين، وأشياء تنفجر بين فينة وأخرى مثل البراكين، وهي تقتل بالنار أيضا مثل البراكين، لكنها تختلف عنها جذريا، إذ إنها من صنع البشر، ونحن نطلق عليها لقب الحروب، الحروب القبلية، والحروب الطائفية، والحروب الاستعمارية، وكل ما قد يشابه ذلك.

توجد براكين البشر عندنا في الصومال، وتوجد في اليمن، وتوجد في السودان جنوبه وغربه، وتوجد في لبنان عبر الطوائف وصراعاتها. وهي تنفجر في أغلب الأحيان داخل حدود البلد، لكنها تفيض أحيانا عبر الحدود كما هو الحال مع براكين إسرائيل، التي حدث أن فاضت نحو لبنان ونحو سورية ونحو الأردن ونحو مصر. ولبراكين البشر ميزات أخرى، إذ يمكن التحكم بها أحيانا، وذلك حين تتدخل دول استعمارية لتحريكها أو للاستفادة من حممها. في جنوب السودان مثلا توجد دول عظمى، كما توجد إسرائيل. وفي غرب السودان (دارفور) توجد دول عظمى كما توجد إسرائيل، وتتضامن معها حتى دول مجاورة. وحين يندلع بركان البشر، لا تعود تعرف أين هو محرك الدول العظمى، أو أين هو محرك الدول المحلية، أو أين هو محرك الخلافات القبلية أو الطائفية أو العرقية.

وانفجار البراكين الضخم يتحرك بشريا أحيانا بواسطة قوى صغيرة. القوى الصغيرة توجد في الميدان وتترك وراءها أحيانا جثثا ودماء ودمارا ومشردين وجوعى. وتوجد مع القوى الصغيرة دوما قوى كبيرة، لكنها نادرا ما تظهر، ولا يراها الناس إلا عبر الوفود والوسطاء والمندوبين، وكذلك عبر المؤتمرات التي تنعقد في قاعات أنيقة، ويتبادل فيها المدعوون التهديد والوعيد بألفاظ شديدة التهذيب.

وإذا كانت براكين الصومال واليمن والسودان قد أصبحت ملء العين والبصر، فإن ما يجري في لبنان الآن، وفي هذه الأيام بالذات، جدير بالدرس والمراقبة. وإذا كان خبراء البراكين يذهبون إليها وهي تستعد للانفجار ليدرسوا حرارتها وغازاتها وأنواع التراب الذي ينبعث منها بحرارة تصل إلى 700 درجة مئوية، فإن ما يجري في لبنان جدير بأن يذهب إليه الخبراء ليدرسوا المواقف والتصريحات والتهديدات، وليدرسوا أيضا القضايا السياسية المحلية التي يسمح الكبار للصغار بدرسها، وتلك التي يمنعون الاقتراب منها، مثل القرار الظني، والمحكمة الدولية، وشهود الزور، واستعدادات إسرائيل للحرب.

يكفي أن تكون خبيرا، أو مساعد خبير حتى، لتلتقط ما تشاء من ملاحظات. وأحيانا يأتي الكبار ليرشدوك إلى ملاحظات قد تفوتك، فهم لا يضيرهم أن تعرف عنهم بعض ما خططوا له في السابق، وبعض ما يخططون له الآن.

لقد ظهرت في قلب البركان اللبناني البشري المحتقن، مذكرات الرئيس الأميركي جورج بوش الابن. تحدث فيها كيف شجع إسرائيل على الحرب عام 2006، وكيف منع إسرائيل من إيقاف الحرب ودفعها لتطويل أمدها. وكلمة «تطويل أمدها» هنا كلمة دبلوماسية بارعة، لأنها كلمة تتم ترجمتها على الأرض بغارات كانت هي الأقسى وهي الأكثر تدميرا في تلك الحرب. وتستطيع أنت كمراقب صغير أن تستنتج من ذلك أن كثيرا مما يجري الآن في لبنان، من مواقف تعلن، ومن تحد يتصاعد، ومن تدخلات دبلوماسية فجة، على لسان مندوبة أميركا لدى الأمم المتحدة، وعلى لسان وزيرة الخارجية الأميركية، وعلى لسان مساعدها فيلتمان الذي تخصص في التصريحات الوقحة، هو من تخطيط وتوجيه الدول العظمى، ثم تلتقط أطراف محلية تلك التوجيهات، وتعمل على هديها.

هناك جانب محلي في البركان اللبناني البشري، يجري النفخ في ناره، لكن هناك جانبا إسرائيليا يجري تحضيره ليقوم بالتفجير البركاني الأكبر. ولا نحتاج هنا إلى أدلة كثيرة، فهي أمامنا، وهي علنية، ويكفي أن نذكر بعضها:

أولا: أن إسرائيل بدأت منذ أن هزتها نتائج حرب 2006، حملة إعادة تدريب لجيشها، شملت كل أنواع الأسلحة، وكل أنواع التدريبات، وكل أنماط الأسلحة الحديثة التي يسمونها أسلحة ذكية، بسبب قدرتها الهائلة على التدمير.

ثانيا: المسؤول الفرنسي الذي زار إسرائيل، وقام بجولة ميدانية شملت شمال فلسطين المحاذي للبنان، وعاد منها ليقول «إن إسرائيل باتت جاهزة للحرب ضد لبنان»، وعاد منها ليقول «إن الإسرائيليين أبلغوه بأنهم استكملوا استعداداتهم العسكرية والمدنية للحرب». وذكر المسؤول الفرنسي ما هو أخطر فقال إن الجنرال غادي آيزنكوت رئيس الأركان المقبل قال له «حينما تندلع الحرب المقبلة يجب أن تحسم بسرعة وبقوة، ومن دون إيلاء أهمية للرأي العام العالمي». لماذا؟ لأن درجة التدمير والقتل ستكون عالية جدا، وستثير اعتراض الرأي العام العالمي.

ثالثا: نشرت مجلة أخبار الدفاع «ديفنس نيوز» الأمنية الأميركية، أن الإدارة الأميركية قررت تخزين عتاد عسكري في إسرائيل، وأن قسما كبيرا من العتاد الذي سيتم تخزينه يشتمل على أسلحة دقيقة تطلق من الجو. ويلاحظ هنا أن معاهدة تخزين الأسلحة تشتمل على بند يسمح لإسرائيل باستخدام تلك الأسلحة، كما يلاحظ هنا تصريح أدلى به غابي أشكنازي رئيس الأركان الحالي قال فيه «إن إسرائيل سوف تضطر في الحروب المقبلة إلى استخدام أسلحة دقيقة بشكل واسع». الأمر الذي يعني أن السلاح الأميركي «الدقيق» الذي سيخزن، هو نفسه السلاح الإسرائيلي «الدقيق» الذي سيستخدم في الحرب المقبلة. وهو أيضا الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة الأميركية هي التي تحضر إسرائيل للحرب منذ الآن، على الرغم من كل تصريحات أوباما الخادعة.

رابعا: إن العمل على تفجير البركان لا يقتصر على لبنان، فسورية موجودة دائما كهدف أساسي. وفي دراسة أعدها «مركز أورشليم للدراسات والأبحاث السياسية» تركيز على أن إسرائيل لا تستطيع الدفاع عن نفسها إذا تخلت عن مرتفعات الجولان. وذكرت الدراسة أن أي حل مع الفلسطينيين يبعد الجيش الإسرائيلي عن حدود نهر الأردن القريبة من الجولان، سيجعل من تلك الحدود قاعدة للأعداء المحتملين، ومنهم سورية. ويزداد الأمر سوءا، حسب قول الدراسة، مع امتلاك سورية لصواريخ قادرة على ضرب العمق في إسرائيل.

وتشير هذه النقاط كلها إلى أن هناك من يعمل دوليا وإسرائيليا على تفجير البركان اللبناني، وهو بركان ستتناثر حممه بالضرورة نحو سورية، وبالتأكيد نحو ما هو أبعد من سورية. تماما كما كان الحال عليه عام 2005 بعد حادث اغتيال الشهيد رفيق الحريري.

لقد تغير العنوان.. وتغير نمط الاتهام.. وبقي الهدف الاستراتيجي هو نفسه.