مفاجآت برشلونة

TT

لم يكن مناسباً على الاطلاق أن يقرأ المرء هذا الكلام في الطريق إلى برشلونة، إحدى أجمل مدن المتوسط. بل ثمة إغراء بالقول أجملها، لأن قديمها لا يزال يزين حداثتها الرفيعة الذوق، وفضاؤها فسيح مثل فنائها، وساحلها لم تدب به الفوضى مثل ساحلي الإسكندرية أو مرسيليا. وهو كلام غير منصف، في أي حال، ذلك الكلام، أقصد القول إنه ليس هناك من هو أكثر غباء من الاسبان. لكنها قيلت بالتأكيد في لحظة غضب ولذلك قصة. فالذي قيلت بسببه سوف يصبح فيما بعد أشهر سكان المدينة بل من فريق المدينة في كرة القدم. أجل، أجل، بلا مبالغة. العام 1952 أرسل غابرييل غارسيا ماركيز مخطوطة روايته الاولى «عاصفة ورق الشجر» إلى دار لوسادا للنشر، في بوينس ايرس. وبعد فترة تلقى الرد من مدير الدار، الناقد الاسباني غيرمو دين توري ومعه هذه النصيحة الذهبية: لا مستقبل لك في الرواية، ابحث لنفسك عن مستقبل آخر. وكاد يشرع في ذلك حقاً، لولا أن أصدقاءه قالوا له في صوت واحد: «ومن يصغي إلى الأسبان؟ الجميع يعرفون انهم أغبياء؟».

كان والده أيضاً يريد منه الابتعاد عن هذا العمل العبثي، الكتابة. وعندما رسب في السنة الثالثة من دراسة الحقوق ثار غضب والده وقرر أن مستقبل ابنه قد انتهى، فحاول أحد اصدقاء «غابو» تعزيته قليلا بالقول، إنه اصبح احد اشهر كتًاب القصة القصيرة في كولومبيا، فقال الأب، «طبعا قصاص. منذ صغره وهو يخترع الاكاذيب».

أمران لم يصحا: لا الاسبان حقاً اغبياء، ولو أساءوا اكتشاف ماركيز من القراءة الاولى، ولا هو مخترع اكاذيب. فقد قام كل عمله الروائي على سرد ما رأى حوله، وجعل من الحكايات التي رآها في عالمه القروي الرتيب والمألوف في أميركا اللاتينية، عالماً مذهلاً في آداب العالم، وجعل من تلك الاسماء الهندية والمعقدة، اسماء شهيرة يعرفها الملايين كما يعرفون هوليوود أو باريس. لم أكن أعتقد أن في الامكان وضع سيرة لماركيز، بعدما وضع هو شيئاً من سيرته في كل كتبه. لكن جيرالد مارتن (الدار العربية للعلوم)، أمضى 17 عاماً يستجوب نحو 300 شخص ويعقد اللقاءات مع ماركيز (المعروف باسم التحبب، غابو) إلى أن تمكن من وضع «السيرة الرسمية»، لأشهر كتًاب الاسبانية منذ الشاعر سرفانتس، صاحب «دون كيشوت» سباق الطواحين الخيالية. كم ازدهر الاسبان وازدهر كاتب الاسبانية مذ لم يكن معه خمسة استافو يشتري بها الصحيفة التي نشرت قصته على مدى صفحتها الاولى. وكم تغيرت اسبانيا مذ كانت في عهدة الجنرال فرانكو وذروة الفاشية الاوروبية. وكم شعرت بشيء من الندم لأنني لم اكتشف برشلونة قبل اليوم. فقد كانت الطريق دائماً إلى مدريد أو إلى الاندلس.