ثم كان الندم العظيم!

TT

أول مرة أزور سويسرا كانت سنة 1950 وكانت سعادتي لا حدود لها. فسويسرا جزء منها يتكلم الألمانية وجزء يتكلم الفرنسية وجزء يتكلم الإيطالية.. وكان أصدقائي ينظرون في دهشة إلى فرحتي وسعادتي ويقولون: طفل عثر على لعبة.. أما لعبتي فهي أنني أتكلم هذه اللغات الثلاث..

والسبب القوي أن بعض الإيطاليين لا يصدقون أنني أجنبي. فلغتي الإيطالية سليمة وهي قريبة من لهجات أبناء الجنوب. وخصوصا أبناء صقلية حيث المافيا والإرهاب وارتفاع الصوت وسط الكلمات والنظر في الوجه وفي العيون بالذات. ولم أكن أنظر في العيون. فيكفي أن أقول ويسمعني أي أحد. ومهما حاولت أن أؤكد أنني أجنبي. فلا يصدقني أحد.

ذهبت إلى صالون الحلاقة. وبدلا من أن أكلم الرجل بالإيطالية فكنت أكلمه بالألمانية. وهو يعرف الألمانية. فمعظم السويسريين يتكلمون اللغات الثلاث. وهناك لغة سويسرية اسمها «شفتر ديتش» - أي الألمانية السويسرية. وأنا أعرف بعض الكلمات.

وجلست وجاءت إيطالية حلوة. ولاحظت أنني أتكلم الألمانية السويسرية. فكلمتني وأخذت رأيي وكنت أقول: يا.. يا.. أي نعم.. ثم طلبت منها أن تكلمني بالإيطالية لكي أفهم وتفهم. وهزت رأسها. واستدارت. ولم أعد أراها. وجاء الحلاق وقرأ في ورقة كانت الفتاة قد كتبتها. وبسرعة أمسك رأسي وأدار فيه المشط والمقص وماكينات الحلاقة. وكلها تدور وتخوض في شعري. وكان طويلا..

ولم أشأ أن أنظر في المرآة فالصابون قد دخل في عيني ولسعني.. وجاء الماء الدافئ وغسل الصابون وأغمضت عيني ورجعت برأسي إلى الوراء ونمت. وصحوت بعد دقائق لأجد أن شعري كله ذهب.. وصرخت: ما هذا؟ وفي هدوء أخرج الرجل الورقة من جيبه وقال: هذا ما عرضته عليك إحدى العاملات وأنت وافقت.

ووافقت على الذي لم أفهمه. وإنما ادعيت الفهم. وهذه هي النتيجة. هذه غلطتي!

مرة أخرى: كانت لي صديقة إيطالية جميلة وليس فيها والله العظيم أي عيب. فهي درست الفلسفة مثلي وتعرف عددا من اللغات مثلي. وجميلة جدا. وأحببتها. وأخذتني إلى البابا يوحنا 23 لكي يباركنا. فهو من أقاربها. وباركنا. ولكني رفضت الزواج. والسبب: إنني لست شيئا في بلدي. لا قيمة لي. صحافي مبتدئ. ولا عندي اسم ولا عندي فلوس ثم لا قيمة لي..

وبكت الفتاة وبكيت. ثم داعبتها وقلت لها كلمة. قفزت وهربت وأغلقت في وجهي الباب والشباك والتليفون. رد فعل عنيف مع أنني لم أقل لها إلا إنها تشبه «أدريانا» بطلة رواية «فتاة من روما» للأديب ألبرتو مورافيا. ولم أكن قرأت الرواية وإنما ادعيت فلم أعرف أن أدريانا غانية.

تماما كما ادعيت أنني أعرف الألمانية السويسرية. فكانت النتيجة أن رأسي صار «ظلبطه» أي لا شعرة واحدة توحد الله - أستاهل!