عرفات الذي افتقدناه

TT

لو كان الرئيس الراحل ياسر عرفات بيننا اليوم، هل كان الوضع الفلسطيني سيكون كما هو؟ غزة منفصلة، الوضع التفاوضي في الثلاجة، القضية الفلسطينية ثانوية بعد العراق وإيران وشبعا ودارفور و«القاعدة» في اليمن.

ما ميز الرئيس الراحل أنه كان قادرا على إشعال الشموع والحرائق معا، الأمل والفوضى في آن. لم يكن عرفات رجلا يحب المغامرات، بل كان يهاجم كثيرا، لكن بأقل قدر من الخسائر، وهذا يفسر تراجعاته وإحجامه المتكرر عن القبول بالحلول التي تعهد بالقبول بها، ويفسر لماذا اعتاد الكثيرون على انتظار أفعاله أكثر من أقواله، وعرف طويلا بأنه حرباء سياسية أكثر من قائد عسكري جامح. كان مسدسه مجرد مظهر، أما أبرز مهاراته فهي أحاديثه، حيث كان قادرا على الإقناع والجدل. تجلت مهارة أبو عمار داخل المعسكر الفلسطيني المكتظ بالقيادات المتنافسة والزعامات الموالية لأطراف خارجية متعددة، حيث عرف كيف يربطهم جميعا به، أو على الأقل يمسك بهم عن بعد. كان لاعب سيرك بارعا سقط مرات من على الحبل المشدود دون أن يدق عنقه. فقد كان يدري أن الجميع، حتى الذين كانوا يحاربونه، في حاجة إليه في يوم ما، وهو أيضا لم يغلق بابه قط.

ومن أبرز إنجازات الزعيم الفلسطيني الراحل أنه في عام 88 فرض فلسطين مشروع دولة على العرب أولا، حيث كانت فلسطين قبل ذلك مجرد تركة عثمانية بريطانية موزعة بين الأردنيين والمصريين والسوريين. ولم يكن سهلا إقناع هذه الدول أن تتخلى عن «أراضيها الفلسطينية». فعلها ببراعة واستمر على علاقة جيدة بعمان والقاهرة ودمشق، مع انتكاسات في العلاقات ما كانت تدوم طويلا.

لكنه بعد أن حرر الأرض الفلسطينية من الملاك العرب على الورق فقط لم يستطع أن يفعل الكثير ضد المحتل الإسرائيلي، فقد كان أكبر عدو يواجهه هو حقائق الجغرافيا العربية. فقد أغلق عبد الناصر، قبل السادات، سيناء أمام المقاومة الفلسطينية. كما أحكمت القيادة السورية إغلاق الجولان. وأخرجت الأردن كل المقاومة الفلسطينية بعد مواجهتها الدامية واستهدافها للنظام الأردني. واتفق الجميع على ترك ممر واحد للمقاومة الفلسطينية، هو لبنان، كونه الأرض الرخوة، وهكذا تلقف اللبنانيون المقاومة ضمن صراعاتهم المحلية، مرة السنة ضد المسيحيين، ومرة ضد السوريين لأجل عرب آخرين، ومرة مع السوريين ضد المسيحيين، ومرة مع الشيعة ضد السنة. أخيرا، طرد الإسرائيليون عرفات من لبنان إلى تونس في رحلة وداع ظن أنها نهائية.

الأميركيون اعتقدوا أنهم عندما اخترعوا فريق التفاوض الفلسطيني السري، بديلا عن عرفات، صاروا بعيدا عن جواسيس أبو عمار الذي كان يقيم في الحمامات التونسية، إلا أن سرهم لم يكن ببعيد عنه. كان يعلم ويدعي أنه بالمؤامرة ينتظر أن يدخل اللعبة في الوقت الحاسم. لم يشأ أن ينافس حنان عشراوي وعبد الشافي في اللعبة التفاوضية الخطرة. فقد خدمه المفاوضون الفلسطينيون وعبدوا له الطريق، غامروا وفاوضوا، وشعر أبو عمار أن العرب والفلسطينيين لم يمانعوا كثيرا، ألح على أن يكمل الطريق، وهكذا عاد إلى فلسطين.

كانت تلك الألعاب البهلوانية أكثر خطورة من اليوم. كانت هناك أنظمة عربية قاسية أكثر من اليوم، فصدام حسين تسلح بأشخاص خطيرين مثل أبو نضال، الذي استضافه في بغداد وتولى عمليات قتل رجال أبو عمار. الذي أنهك الرئيس الراحل لم تكن إسرائيل، بل أشقاؤه العرب. معظم المخاطر تهددته من الدول العربية ذات المصالح المتناقضة، فهو إن صافح زعيما اعتبر عدوا عند زعيم آخر، وهكذا. وهو لم يتردد في ممارسة لعبة الخلافات اعتقادا منه أنها الوسيلة الوحيدة لحماية المصالح الفلسطينية.

اليوم لا نستطيع أن نقول إن الرئيس محمود عباس أقل شأنا، لكنه بالتأكيد يلعب بأسلوب مختلف تماما. ولو كان عرفات موجودا اليوم ربما ما عاشت حماس هانئة في غزة، وكان أبو عمار قد فعل فيها من المكائد ما ينغص عليها حياتها وحكمها، اليوم حماس هي التي تنغص على الرئيس عباس حياته. أما بالنسبة للقضية الكبرى، فإن أبو مازن تلميذ أبو عمار يفاوض ولا يغامر، تاركا الأمر لمن بعده.

[email protected]