جمال مبارك والـ«فول غاي»

TT

ظهور جمال مبارك عبر تلفزيون الدولة الرسمي لإقناع المصريين بإنجازات الحكومة في الداخل، وظهوره على قناة «العربية» ليخاطب المحيط الإقليمي، لافت للنظر، ولا يمكن تجاهله في ظل أجواء مصرية يكثر فيها اللغط عن مرحلة انتقالية. ورغم أهمية ما قاله جمال مبارك للتلفزيون المصري ولقناة «العربية»، ورغم كثرة التعليقات على المقابلتين والتي فاقت التصورات، ورغم كل التكهنات التي تقول بأن جمال سوف سيصبح رئيس مصر القادم وتلك التي تقول بعكس ذلك، فإن المهم هنا في هذا المقال أن ندخل في تحليل علمي للوضع من دون أن ندخل في حسبة رؤيا الطالع وضرب الودع من قبل هل سيكون رئيسا أم لن يكون، في محاولة بائسة لقراءة النوايا.

لا بد من وضع مقابلات جمال على المستوى المحلي (التلفزيون الرسمي) وعلى المستوى الإقليمي (قناة «العربية»)، جنبا إلى جنب مع مقالين كتبهما الرئيس حسني مبارك خلال العامين الماضيين، الأول في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وهي صحيفة رجال الأعمال والبيزنس في أميركا، أما مقاله الثاني فكان لصحيفة «نيويورك تايمز» ذائعة الصيت وعالية المصداقية، وصحيفة النخبة الأميركية. فبوضع هاتين المقابلتين اللتين أجراهما جمال إلى جوار مقالتي الرئيس مبارك، يتضح لنا أن النظام المصري لم يعد لديه من هو قادر على إقناع الجمهور الداخلي أو الإقليمي أو العالمي سوى الرئيس مبارك والسيد جمال مبارك. وفي هذا السياق لا يمكن فهم جمال مبارك على حدة، بل بتجاور ما قاله للقنوات العربية وما كتبه الرئيس في مقالين في الصحافة العالمية لإقناع الخارج الأميركي والأوروبي تحديدا.

الحقيقة أن مقابلتي مبارك الابن، وكتابات مبارك الأب لكل من صحيفتي «وول ستريت جورنال» و«نيويورك تايمز»، تكشف عن أمر مهم بالنسبة للأوضاع في مصر، وقد ينسحب الحديث إلى دول أخرى في المنطقة أيضا تعاني الأعراض المصرية ذاتها، وهو أنه لم يعد في النظام رجال يتمتعون بمصداقية في الداخل والخارج سوى الرئيس وابنه، وهذا يعني بالضرورة تآكلا في مصداقية من يمكن تسميتهم بـ«رجال حول الرئيس»، أو حتى «رجال حول ابن الرئيس»، لذا يلجأ النظام في اللحظات الحرجة وفي القضايا الكبرى إلى استخدام المدافع الثقيلة المتمثلة في الرئيس وابنه لإقناع الجمهور المقصود بقضية جوهرية، سواء أكانت إنجازات الحزب في الداخل كما عرضها جمال مبارك أمام الناس على تلفزيون الدولة، أو لإقناع الخارج بدور مصر الإقليمي خصوصا التزامها وحفاظها على السلام في المنطقة.

النقطة الجوهرية هي أنه لولا المدفعين الثقيلين: الرئيس مبارك وجمال مبارك، لن يصدق أحد ما يقال في مصر سواء في الداخل أو الخارج، وهذه مشكلة كبرى لا تعاني منها مصر فقط، وإنما دول كثيرة في الإقليم قضت تماما على الصف الثاني من رجال لهم مصداقية، أو أنها لم تجهز بالأصل صفا ثانيا يتمتع بالمصداقية المحلية والعالمية في الوقت ذاته. وهذه معضلة تحتاج إلى نقاش طويل في كل بلد حسب خصوصيته، من حيث ما يسمى بتغطية الرئيس أو الحاكم عموما، سواء أكان الحاكم ملكا أو أميرا أو رئيسا. تغطية الرجل الأول في النظام لا بد أن تكون لها ضوابط، وأول هذه الضوابط هو التفكير في مخرج للقيادة عندما تخطئ في التعبير عن قضايا بعينها، لذا يجب ألا يكون الرئيس هو المتحدث الأول عن أي موضوع، فلا بد أن يوجد في أي نظام ما هو متعارف عليه في الغرب بالـ«فول غاي» fall guy (وهو مصطلح سياسي وإعلامي أميركي دارج يعني الرجل الذي لو سقط لن يكلف النظام كثيرا، أو الكارت الذي يمكن حرقه أو التضحية به بلغة لعبة الورق). المقصود هنا هو حماية الرجل الأول أو إحاطته بسياج أو مجموعة من الرجال الذين يمكن تسميتهم بالـ«فول غايز» من أجل حماية مصداقيته في النظام. وهذا يعني أنه لو أن الرجل الثاني كذب أو خانه التعبير في موضوع نقلا عن الرئيس أو الملك أو الأمير، يأتي الحاكم في النهاية ويصحح الأمر، ويحتفظ النظام بهيبة الحاكم، ويضحي بمصداقية الرجل الثاني أو الثالث. وقد حاول النظام المصري استخدام فكرة «الفول غاي» عندما ظهر أمين تنظيم الحزب الوطني أحمد عز في مواجهة المرشح المحتمل للرئاسة الدكتور محمد البرادعي على قناة «سي إن إن»، حتى لا يحدث انطباع بتساوي الرؤوس بين البرادعي ومبارك، لكن التجربة فشلت بامتياز، وفشلها يحتاج إلى مقال خاص.

النقطة هي ليست أحمد عز أو غيره، لكن أن يقدم النظام الرئيس أو ابنه من أول القصة، فهذا يعني أنه ليست لديه «كروت» يحرقها، فالرئيس هو «الكارت» الوحيد الذي يلعب به النظام في الخارج وفي الإقليم وفي الداخل. الإعلام الغربي اليوم، صغيره وكبيره، إن أراد التحدث مع مسؤول مصري أو سوري أو يمني، فهو يطلب مقابلة الرئيس شخصيا، أو رجل المخابرات الأول إن قبل هذا الحديث العلني «أون ذا ريكورد». تكرار استخدام «الكارت» الوحيد في اللعبة يفقده بريقه، حتى لو لم يفقد مصداقيته في عالم التلفزيون المعتمد على الصور المتجددة.

في الغرب، تمنح الحكومات مسؤوليات لوزراء الدول، وتأتي المصداقية من حقيقة أن هؤلاء يمتلكون كل الصلاحية للحديث عن ملفات بعينها. ونجد نموذجا مشابها في المملكة العربية السعودية، نموذج الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية، فهو يتمتع بصلاحيات عالية في الحديث عن ملف الإرهاب، لذا تجد أن الصحف والمحطات الأجنبية التي تريد أن تتحدث عن ملف الإرهاب في السعودية، تسعى وتفرح بقبول الأمير محمد بن نايف بإعطائها مقابلة سواء مكتوبة أو متلفزة، ولا تصر المحطة أو الصحيفة على مقابلة الملك شخصيا حتى تحصل على حديث ذي مصداقية. ورغم وجود هذه الظاهرة في حالة الأمير محمد بن نايف، فإن الأمر لا ينسحب على كل أجهزة الدولة، إذ تتفاوت فكرة المصداقية في الإعلام الغربي في ما يخص الوزارات بين الواحدة والأخرى.

الفكرة الأساسية هنا هي أن أنظمتنا العربية لم تتبن فكرة الـ«فول غاي»، وما زالت تجازف في حرق الكارت الأخير، وهو قمة الهرم السياسي والسلطة في أي بلد. حديث مبارك الابن على التلفزة مطمئن، ومقالات الرئيس مبارك تزيدنا اطمئنانا على مصر ومواقفها، لكن عدم وجود صف ثان في هذه الأنظمة يحظى بمصداقية في الداخل والخارج هو مدعاة للقلق في أنظمة مثقلة بقضايا الداخل، ومحاطة بمجموعة من الدول الفاشلة أو التي في طريقها للفشل، هذا إضافة إلى التحديات الدولية التقليدية المعروفة، مثل قضية الصراع العربي الإسرائيلي. حرق الجوكر من أول اللعبة هو بداية خاطئة لأي نظام، خصوصا عندما يدعي النظام أن لديه أوراقا أخرى ومؤسسات تتمتع بالمرونة، قادرة على مواجهة التحديات. بقدر ما حملت مقابلات جمال مبارك التلفزيونية من تفاؤل بأن هناك رجلا ملما ولامعا ومقبولا إعلاميا، بقدر ما أن هناك ما يدعو للقلق لغياب الصف الثاني للقيادة في دولة عربية كبيرة تعدادها ثمانون مليون نسمة.