مؤشرات مستقبلية

TT

أولى الإعلام أهمية فائقة لمتابعة أوباما في جولته الآسيوية، وخاصة كلمته أمام البرلمان الهندي، التي عبر فيها عن دعمه، كرئيس للولايات المتحدة «لحصول الهند على مقعد دائم في مجلس الأمن»، في ابتعاد واضح عن السياسة الأميركية المعادية للهند خلال العقود التي كانت فيها الهند أحد القادة المؤسسين لحركة عدم الانحياز، التي كادت تؤدي مرارا إلى زعزعة استقرار أكبر ديمقراطية في آسيا. ولكن النهوض الاقتصادي المعتمد على الإمكانات والسياسات الذاتية، أدى إلى هذا التغيير النوعي، بالإضافة إلى المعاناة المريرة للاقتصاد الأميركي الذي بدأ يفقد دوره كقاطرة للاقتصاد العالمي لصالح الاقتصادات الناهضة في الصين، والهند، والبرازيل، وإندونيسيا، وغيرها من الاقتصادات الناشئة.

جولة أوباما في الهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية، وحضوره الباهت في قمة العشرين، تصب في اتجاه مختلف عما اعتدناه من حضور للسطوة الأميركية، وتستوجب قراءة مقارنة مع عودة تصاعد التطرف الحربي المتمثل في عودة المتصهينين من الجمهوريين، الذين سارعوا إلى دق طبول الحرب ضد إيران، وإطلاق التصريحات الهادفة إلى زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تأكيد الدعم السياسي والتمويلي لعمليات التطهير اليهودية المتواصلة ضد عرب فلسطين.

جولة أوباما في الهند، والتهليل الذي بان على أساريره وفي تصريحاته عندما حصل على عقود بقيمة عشرة مليارات دولار، تساهم في خلق خمسين ألف وظيفة وحسب في الولايات المتحدة التي تعج بأكثر من مائة مليون وظيفة، تري صعوبة الواقع الاقتصادي في الولايات المتحدة، فالدولة التي تعتبر الأعظم عسكريا، والأضخم اقتصاديا في العالم، ترسل رئيسها إلى البلدان البعيدة التي كانت تعاديها من أجل الحصول على عقود بهذه القيمة الضئيلة بالنسبة إلى اقتصاد حجمه يتجاوز ثلاثة تريليونات دولار.

وبينما كان أوباما يحاول كسب عدد من العقود في آسيا لإنعاش اقتصاد بلاده، كانت الصين قد أعلنت أنها سوف تستثمر سبعة مليارات دولار في تحسين البنية التحتية في إندونيسيا. وهذا التوقيت يؤشر إلى تحد آخر تواجهه دولة السيد أوباما، فالصين في سباق محموم لإزاحة الولايات المتحدة عن دول منظمة آسيان العشر المطلة على المحيطين الهندي والهادي. ولكن المنافسة الأشد بين الصين والولايات المتحدة تتجه إلى إندونيسيا المسلمة، الدولة الأضخم في آسيا، والأهم في منظمة آسيان. ففي الوقت الذي قدم الصينيون فيه التمويل والاستثمارات اللازمة لتنمية هذا البلد، لم يمتلك أوباما أن يقدم شيئا سوى إحدى خطبه الجميلة، التي لم تعد تعني أي شيء لأي أحد، فقد انكشف شعار «التغيير» الذي تعالى صراخه به خلال حملته الانتخابية، فإذا به «الاستمرار» في سياسات بوش العدوانية في غوانتانامو وأفغانستان والعراق وفلسطين.

من الواضح أن الصين بدأت تنافس الولايات المتحدة في ملعبها التقليدي، أي في أوروبا، ففي الوقت الذي كان الرئيس باراك حسين أوباما يصل فيه إلى الهند في جولته الآسيوية، كان الرئيس الصيني هو جينتاو يزور البرتغال قادما من فرنسا، حيث تضاعف مستوى التبادل التجاري بين فرنسا والصين إلى حدود ثمانين مليار يورو سنويا، كما وصلت المساعدات الصينية لليونان إلى ستة مليارات يورو في مجالات كثيرة، ويأتي هذا العطاء الصيني السخي لليونان بعد عرض في نهاية الشهر الماضي بشراء الديون اليونانية، في حين تعجز الولايات المتحدة عن مساعدة أحد، لا بل حتى تعجز عن مساعدة نفسها بغير طباعة المزيد من الدولارات التي لا تعكس نموا اقتصاديا، بل حاجة راهنة إلى سوق العملات وحسب.

كما أن الرئيس البرتغالي عرض على بكين «أن تصبح بلاده أرضية لوجستية لانطلاق الصين نحو أسواق أوروبا وأسواق البلدان الناطقة باللغة البرتغالية»، حسب قول الرئيس كافاكو سيلفا. ومع أن هذه التوجهات تبدو اقتصادية في الأساس، فإنها تؤشر ولا شك إلى تطورات قادمة عن ترتيب المواقع والأدوار السياسية للقوى الدولية.

ورغم كل هذه الخسائر للقوى الرجعية المتحكمة بمفاصل الحكم في الولايات المتحدة، لا تزال تدفع بلادها إلى الهاوية عبر استنزاف اقتصادها بالحروب التي تتحمل عبأها في العراق وأفغانستان، بينما تسعى الصين ضمن استراتيجية تقدمية إلى كسب النفوذ الاقتصادي والسياسي الأول في العالم. بينما يعجز صناع القرار الاستراتيجي الأميركيون عن إيقاف تدهور موقع بلادهم بسبب انتشار الصهيونية في مفاصل الفكر السياسي الأميركي، وأيضا تحكم الحكومات الإسرائيلية في الكونغرس والخارجية الأميركية بشكل تدفع فيه الولايات المتحدة إلى مغامرات عسكرية باهظة الثمن، وغير ذات جدوى للولايات المتحدة، في حين تسعى إسرائيل لكسب ود الصين تحسبا لتدهور النفوذ الأميركي في العقود القادمة.

ففي الوقت الذي يفخر فيه الرئيس السابق بوش بأنه لم ينفذ ما طلبه منه أولمرت بضرب سورية، لأنها كانت ستكون ثاني بلد عربي وثالث بلد مسلم تشن الولايات المتحدة هجوما عسكريا عليه، لا أعلم إذا كان قد ذكر في مذكراته التي لم نقرأها بعد، بل قرأنا مقتطفات منها في الصحف فقط، أن إسرائيل هي التي كانت تدق طبول الحرب ضد العراق، وهي التي ضخمت، من خلال المعلومات الكاذبة التي قدمتها للولايات المتحدة، من خطر «أسلحة دمار شامل» الموهومة، أثبت الواقع عدم وجودها، وعدم وجود أي تهديد إرهابي، أو شبكة «قاعدة» في العراق حين دخلت القوات الغازية الأميركية ذاك البلد لتقتل مليون عراقي في أكبر جريمة حرب يشهدها القرن الحادي والعشرون.

والمؤشر ذو الدلالة السياسية والاقتصادية على الدور البديل للولايات المتحدة الذي تدفعها إسرائيل إليه، أنه في الوقت الذي كان فيه الرئيس أوباما يسابق الزمن والرئيس الصيني، في استدراج وكسب مناطق النفوذ في آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، قبل أن يصل الاثنان إلى سيول، فإن رئيس وزراء الكيان الصهيوني كان في واشنطن يحرض الكونغرس وحكومة الولايات المتحدة عبر اللوبي اليهودي الممتدة أوصاله إليهما لتوجيه تهديد عسكري إلى إيران بعد أن فشل منذ سنوات في إقناع الإدارة الأميركية بتوجيه ضربة عسكرية مباشرة إلى إيران، ورغم أن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس قد رفض دعوة نتنياهو هذه، فإن جو بايدن قد أكد لنتنياهو التزام الولايات المتحدة «المطلق والكامل» بأمن إسرائيل، مما يشير إلى مدى عمق النفوذ الإسرائيلي في الحكومة الأميركية، وهو العامل الأساسي في تحمل الولايات المتحدة عبء بناء المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية، وغيرها من سياسات التطهير العرقي، وتهجير المدنيين الفلسطينيين، وهدم منازلهم، وقطع أشجارهم.

الاستغلال الصهيوني مستمر للنفوذ والأموال الأميركية، مستمر في شن الحروب الأميركية البديلة عنه ضد الدولة العربية والمسلمة، الأمر الذي يكلف أميركا قوتها، في حين يستثمر منافسوها على قيادة العالم مواردهم أفضل استثمار لإزاحة هذه الإمبراطورية التي كانت يوما نموذجا يقتدى للديمقراطية، وحقوق الإنسان، والرفاه الاقتصادي، وحرية الإعلام، لتصبح نتيجة تحالفها مع إسرائيل إمبراطورية متغطرسة تتحمل عار حروبها، التي تشنها بدلا عن إسرائيل، وعدائها للحرية وحقوق الإنسان، واقتصاد يتراجع باستمرار رغم كل التبجح.

قال بوش في مذكراته: «إن الولايات المتحدة يجب ألا تظهر وكأنها تقوم بمهمة إسرائيل»، والأصح هو «أن الولايات المتحدة يجب ألا تقوم بالمهام التي تكلفها بها إسرائيل»، لأن هذه المهام استنزفت الولايات المتحدة من مصادر قوتها وسمعتها، وربما مستقبلها أيضا. وما تحدث عنه بوش من ضغط أولمرت عليه لضرب سورية، أمر يذهب أبعد من الحادثة نفسها، ليؤشر إلى كيفية اتخاذ القرارات في الإدارات الأميركية، ودور إسرائيل في صنع هذه القرارات، وهو مؤشر ضعف تدفع ثمنه الولايات المتحدة، وما زالت.