لغة الآي آي الجديدة!

TT

في التراث الديني القديم تحكي الكتب اليهودية والمسيحية أن الوصايا العشر كتبت على ألواح حجرية وعرضت على الأقوام وأصبحت معروفة بأنها وسيلة انتقال العلم، وأخذت هذه الألواح بأشكالها المتنوعة وطبقت في حضارات وثقافات مختلفة، فعرفها البوذيون في أديرتهم بالتبت والهند والصين واليابان وكوريا وتناقلوا علومهم عليها، وكذلك عرفها المسلمون في «كتاتيبهم» حين تعلمهم القرآن الكريم في مدنهم وقراهم من شنقيط ومكناس في أقصى المغرب العربي إلى بغداد ومسقط في أقصى المشرق وما بينهما.

الألواح كانت وسيلة نقل العلوم بامتياز من الشيخ إلى المريد ومن المعلم إلى الطالب. واليوم عن طريق شركة «أبل» العملاقة والمتألقة للتنقية والاتصالات والترفيه تقدم «لوحا» جديدا سلب العقول بمزاياه وقدراته، فهو يتيح للمستخدم تلقي العلم والمعلومة من المعلم «الافتراضي». «الآي باد»، كما بات معروفا للجميع، هو لوح إلكتروني يحمل في اليدين ويوضع على الفخذ ويتم به تصفح الشاشة وزيارة المواقع الإلكترونية وقراءة الصحف والكتب ومشاهدة الأفلام والاستماع للموسيقى وغيرها من أساليب الاستفادة والتواصل والترفيه والاستمتاع. «الآي باد» ينضم لمنتجات شركة «أبل» الأخرى ذائعة الصيت وواسعة الانتشار وكبيرة النجاح مثل «الآي فون» و«الآي باد» و«الآي ماك» وطبعا «الآي توونز»، وكل هذه المنتجات مكنت شركة «أبل» من الانتقال من مصنع تقليدي للحاسب الآلي إلى شركة تنتج وسائل ذكية للتواصل والتعلم والترفيه، فدمجت كل الوسائل في جهاز واحد مع الحفاظ على البساطة والسهولة في التشغيل وبنت أجيالا من العملاء الأوفياء.

إنه التنافس على الشاشات! اليوم هناك شاشات عديدة تتنافس للحصول على وقت واهتمام المتلقي، فيما بين شاشة التلفاز وشاشة الكمبيوتر وشاشة الهواتف المحمولة وكذلك شاشات الوسائط الجديدة، جميعها تحاول الوصول للمتلقي، وهي بهذا تحقق رؤية «شعبوية المعلومة» بعد أن كانت حكرا للخاصة والنخبة ولمن لديهم القدرة المادية تحديدا، تحولت إلى سلعة شعبية تعددت وتنوعت وسائل الوصول إليها وبالتالي منابر إطلاقها، ولكن مع ذلك تعددت وسائل اختراق المعلومة والتأثير على سلامتها واختفت الخيوط المفرقة ما بين المعلومة الدقيقة والمؤكدة والموثقة وما بين الإشاعة والأكذوبة المغرضة وتحولت بالتالي المعلومة في بعض الأحيان من وسيلة نقد وإصلاح وإيضاح وبناء إلى سلاح هدم وتشكيك وتفرقة وتباعد.

ولليوم، هناك خوف وحذر كبير من التعاطي مع الإعلام الرقمي ووضع منظومة قوانين وأنظمة له مثل الإعلام المرئي والإعلام المطبوع. فالأمثلة واضحة وكثيرة التي يشاهدها الجميع فيما يخص التجاوزات الكثيرة التي تحدث في الإعلام المطبوع والمرئي و«سرعة» الحراك الرسمي لوزارات الإعلام مع من تعتقد أنهم خالفوا من صحف وكتاب ومذيعين ومراسلين فتغرمهم أو توقفهم بينما تترك ساحات الإعلام الرقمي «مفلوتة» وفوضوية دون حراك لا من حيث آلية التصريح بالإطلاق ولا من دقة المقدم من مضمون.

لعل أهم ما تفرزه الاختراعات المتتالية من الشركات التقنية المصنعة للوسائل المختلفة للبث والتلقي هو القدرة على «التمكين» من إنتاج المضمون بشكل سلس وفوري أو الوصول إلى مصدر المعلومة بأقصر الطرق، ولعل أبرز إنجازات شركة «أبل» على سبيل المثال هو تحويل الجهاز المتلقي من جهاز جامد يتلقى الخدمات والأدوات من الشركة التي تقدم الخدمة إلى جهاز ذكي بسيط يتحكم في نوعية وخيارات الخدمات المقدمة، متفوقا بذلك على الشركة المقدمة، وهذا يعتبر نقلة هائلة في نموذج الأعمال الموجود ويصب في صالح المستهلك ولكنه حتما سيتطلب وعيا وإدراكا أقوى للقوانين والأنظمة لأنه على سبيل المثال هناك مدارس وجامعات باتت «تقبل» إدخال «الآي فون» و«الآي باد» كوسائل مساندة مثلها مثل المسطرة والفرجال وغيرها من الأدوات بعد أن كانت تعتبرها أدوات غير موضوعية وتساعد الطالب على «الغش» فهي اليوم تعتبرها وسائل يستخدمها الطالب وتقيّم الطالب بناء على مدى استفادته ونجاحه في البحث وقدرته على ذلك!

يوسف إدريس الكاتب المعروف للقصة القصيرة كانت له قصة ذائعة الصيت بعنوان «لغة الآي آي»، ويبدو أننا اليوم ومع انتشار «الآي فون» و«الآي باد» بشكل محموم نعيش لغة آي آي جديدة!

[email protected]