ولم ينهض من مكانه أحد!

TT

ونحن صغار كانت أحلامنا تأخذنا يمينا وشمالا، وشمالا أكثر. فإلى الشمال ذهب كثير من الزملاء. دخلوا السجون ولم نعرف متى سيخرجون. وقد تمنيت أن أفعل مثلهم وأدخل السجن وأكتب التجربة. وأدباء كثيرون دخلوا السجن بسبب آرائهم. أستاذنا العقاد وسقراط والأديب الإنجليزي أوسكار وايلد والأديب الإسباني ثرفانتس والأديب الفرنسي جان جينيه، وكثير غيرهم. وكلما حاولت أن أستغرق في مثل هذه الأحلام الجريئة أرى أنها ستؤدي إلى أن نموت من الصدمة.

وحاولت أن أحشر نفسي وسط الشيوعيين والإخوان. ولكن يتم اعتقالهم ولا أحد يقترب مني. فأهملت في ملابسي وأطلقت لحيتي. ولكن كل ذلك لم يساعد على اعتقالي..

وذهبت إلى أحد أقاربي في الريف وأمضيت شهورا. وعدت إلى القاهرة، ولما سئلت، قلت: اعتقلوني. وقيل: لماذا؟ ولم أجد صعوبة في اختراع القصص.

ثم جاء وقت عانيت فيه من هذه الشبهة وحاولت أن أنفيها عني ولم أفلح. وآخر عهدي بالشيوعية أننا كنا نتناول غداءنا في بيت أحد الأصدقاء. أما نحن: فالموسيقار كمال الطويل والشاعر الغنائي مأمون الشناوي وعالم الآثار كمال الملاخ والأديب صلاح حافظ. وكنا نحكي ونضحك وكل واحد يروي وبصوت مرتفع.. وكان الشاعر مأمون الشناوي ابن نكتة وأسرعنا في اختراع ما يبعث على الضحك. وكان كمال الطويل يمسك أي شيء ويدق عليه.. حتى إذا لم تكن هناك موسيقى، إن الموسيقى في دماغه وهو يضحك بنصف عقله والباقي مع لحن جديد لم يسجله بعد..

عندما سمعنا نقرا رقيقا على الباب تزاحمنا لنفتح الباب. وقبل أن نصرخ من الدهشة وضع الرجل في وجوهنا بطاقة شخصية تقول إنه من مباحث أمن الدولة قسم مكافحة الشيوعية. وقطع صمتنا ودهشتنا وفزعنا بقوله: مين فيكم صلاح حافظ..

فتقدم صلاح حافظ وقال: أنا.. لحظة واحدة أشرب ما تبقى في الكأس وأنا جاهز ومنتظر.. سلام عليكم.

وأغلق الباب وراءه. وكان أداؤه عاديا جدا. ولا اندهش ولا ترك لنا أية معلومة عن أي شيء.. لنعرف أين يذهب.. ماذا نقول لأهله.. وجلسنا في ذهول.. وعندما سمعنا نقرا ناعما على الباب لم ينهض أحد!