مبروك هزمنا أميركا والغرب!

TT

كثرت الأصوات الغربية التي تدعو مؤخرا إلى «اليأس» من الحل العسكري والتبشير بالحداثة في العالم الإسلامي. باعتبار أن سبب وجود التعصب الإسلامي، ووليده الإرهاب، هو نتيجة طبيعية لغياب الحرية والحكم المدني.

هذه النظرية كانت هي الموجه لسياسات بوش الابن في فترته الأولى، وكان التحليل أن حركة القاعدة وكل حركات الإسلام السياسي وجاذبية التعصب الديني في المجتمعات المسلمة ليس إلا ردة فعل غاضبة لغياب العدالة والحرية، وأنه لا يجوز الإصغاء إلى تحذيرات الأنظمة العربية الحاكمة من أن الديمقراطية الكاملة هي الطريق المباشر لتسليم الدول العربية كلها إلى الجماعات الأصولية، وكان الرد الأميركي حينها أنه يمكن الصبر قليلا علي هذه التيارات الأصولية إلى اللحظة التي تهدأ فيها وتتعود على تقاليد الديمقراطية والحريات المدنية.

لم تكن هذه الأصوات حينها فقط أصواتا غربية، بل إن هناك بعض المثقفين العرب «العلمانيين» من دعاة المدنية، أمثال الدكتور سعد الدين إبراهيم، كانوا من أنصار فتح الباب للـ«فيل» الأصولي، لكن يبدو أنه الآن ليس بذات الحماسة التي كان يبديها قبل بضع سنوات، بعد أداء الكتلة الإخوانية «المجاهدة» في مصر وغزة، حول حريات الناس الاجتماعية وتطبيق معايير أصولية في اللبس ونمط الحياة، بعيدا عن حديث المقاومة والتطبيع و«الكلام الكبير»..

رئيس الأركان البريطاني الجنرال ديفيد ريتشاردز، الذي سبق أن تولى قيادة قوات «الأطلسي» في أفغانستان، قال في مقابلة مع صحيفة «ذي صنداي تليغراف» نشرت قبل أيام، إن «الغرب غير قادر على هزيمة الجماعات المتشددة مثل تنظيم القاعدة، لكنه يستطيع فقط احتواءها». وحذر من أن التشدد يمكن أن يشكل تهديدا للمملكة المتحدة لما لا يقل عن 30 سنة. وتساءل الجنرال البريطاني: «علينا أن نسأل أولا وقبل كل شيء: هل نحن بحاجة إلى هزيمة التطرف الإسلامي في معنى انتصار واضح المعالم؟». وأصر على أن هزيمة التطرف الإسلامي «لا لزوم لها ولن تحقق»، وأشار إلى أن أفضل سلاح في المعركة ضد تنظيم القاعدة هو «استخدام سياسة المنع من المنبع وتعزيز التعليم والديمقراطية».

وفي إشارة خطيرة وذات دلالة على مدى تعقد العالم وامتزاجه بعضه ببعض، يعتقد الجنرال ريتشاردز أن مجموعات «القاعدة» وضعت الأمن القومي البريطاني، نفسه، على المحك! مما يعني أن مسألة الاعتدال الإسلامي لم تعد قضية داخلية خاصة بالمسلمين بل مسألة عالمية تهم العالم كله!

ماذا يعني هذا الكلام؟ نعرف أن القوات الغربية كلها تزمع الرحيل من أفغانستان، والقوات البريطانية على وجه الخصوص تخطط للخروج بحلول عامي 2014 و2015، كموعد نهائي، وقد سبق أن تحدث الجنرال الأميركي، بترايوس، عن موعد مقارب أيضا للقوات الأميركية.

الغريب أن رؤية الرئيس أوباما للأمن القومي الأميركي، أثناء حملته الانتخابية، كانت تقوم على نقد تركيز بوش على العراق على حساب أفغانستان، وأنه يجب الانسحاب بسرعة من العراق وتوفير الجهد لأفغانستان، بحكم أنها هي الحاضن الحقيقي لـ«القاعدة».

الحال أنه لم يحصل الفلاح الأميركي لا في العراق، الذي ينسحبون منه بشكل نزق دون إصلاح البيت العراقي قبل المغادرة، ولا في أفغانستان التي أصبح قصارى ما يراد منها هو الاستقرار، ولو بشكل هش، ولو أدى ذلك إلى إشراك حركة طالبان في الحكم، تذكروا أن السبب المباشر للحرب الأميركية في أفغانستان كان هو كسر شوكة طالبان التي رفضت طرد بن لادن و«القاعدة»!

تستعد القوات الأميركية والأطلسية للخروج من العراق وأفغانستان، ولم يحصل شيء من الأهداف الأخلاقية المعلنة لهذه الحملات الكبرى.

أين الاستقرار و«المدنية» في العراق، حيث الصراع عاد طائفيا بشكل بشع؟

أفغانستان، عادت سيرتها الأولى مع طالبان، وكما يحدثنا الكاتب الأميركي الشهير نيكولاس كريستوف في مقاله الأخير، فإن وضع النساء، بعد لمحة أمل قليلة عقب سقوط طالبان، عاد لحالة القهر والقمع، وكما يذكر كريستوف، الذي عاد للتو من أفغانستان، فقد حدثته امرأة أفغانية تدعى «بَري غُل» من إقليم هلمند قابلها في كابل، في عام 2001 وقالت له حينها: «دعوت أن تهزم حركة طالبان وقد استجاب الله لدعائي»، وقالت إنه منذ ذلك الحين تم تدمير منزلها وقتل زوجها وابنتها في غارات جوية أميركية. وتعيش الآن في كوخ من الطين هنا، وقالت لي - كما يذكر كريستوف - وهي تصب جام غضبها على حركة طالبان والأميركيين والحكومة الأفغانية «إنني أكرههم جميعا».

ومثل الجنرال البريطاني ريتشاردز، يعتقد الكاتب الأميركي أنه «ليست قوة السلاح هي الطريقة الفضلى لوضع حد للظلم، بل يتأتى ذلك من خلال التعليم والتنمية الاقتصادية للرجال والنساء على حد سواء بصورة لا تفضي إلى رد فعل عكسي».

قد يفرح هذا الكلام وهذه «الاعترافات» جنود وقادة «القاعدة»، والمتعاطفين معها في العالم الإسلامي، باعتبار ذلك إقرارا صريحا من الغرب بالهزيمة أمام كتائب «المجاهدين»، وقد يفرح أيضا جماعات «المقاومة» والممانعة في لبنان، ومن يدور في فلك المقاومة «المقدسة» من المثقفين والإعلاميين العرب.

من المؤكد أن ملالي طهران وأحمدي نجاد ورفاقه، أيضا، يفركون الأيدي شماتة بما جرى للقوات الأميركية والأطلسية على ضفاف العراق وجبال أفغانستان.

كل هذه الأفراح والليالي الملاح، طبيعية، ومفهومة، فما جرى هو هزيمة بالمعنى المباشر للقوة الخشنة وفكرة «الفتوة» الذي يضرب الفتوة الآخر بالهراوة، حيث ما زالت هي الفكرة النهائية عندنا للنصر، على اعتبار أننا نختصر القوة هنا بالمعنى العضلي وإيقاع الجرح المادي وإسالة الدماء.

بهذا المعنى، صحيح، نحن - كعرب ومسلمين - هزمنا الغرب وأجبرناه على تركنا لحالنا، ولكن، وهنا مربط الجرح وليس الفرس، كيف هي حالنا أصلا، وكيف ستكون؟!

لماذا لا نسأل أنفسنا: ما الذي أتى بهؤلاء الأجانب إلى ديارنا من الأساس، ولماذا يهتمون بنا؟!

ألا ترون أننا نسبب مشكلة لأنفسنا قبل أن نسبب مشكلة للعالم؟

ماذا حصل، جيوش غربية غزت ديارنا، هم يقولون إن هذا الغزو من أجل ملاحقة الإرهابيين وخلق بيئة سياسية واجتماعية مضادة لهم، حتى يقضوا على خطر الإرهابيين الإسلاميين الذين فجروا فيهم.

هم يقولون ذلك، وكثير منا يقول: بل أنتم كذبة، أتيتم لسلب ثرواتنا، كما يرى بعضنا، أو لإزالة الإسلام وهزيمة المسلمين، كما يرى بعضنا الآخر في تصوير أكثر ملحمية وإخافة.

حسنا، هم يقولون ونحن نقول، المهم أنهم «جربوا» هذا الخيار العسكري وفرض الديمقراطية فلم يفلح المسعى، ببساطة أنهم يحزمون أمتعتهم ويتركون الخيار العسكري، ويحاولون بما تيسر الخروج بشكل يحفظ ماء الوجه ويحقق ولو جزءا بسيطا من الأهداف الأخلاقية لهذه الحملات. بعضنا طبعا يرى أن هذا الانسحاب مجرد خديعة...

بكل حال، بقينا نحن لوحدنا، مع بعضنا البعض. هل تحسن حالنا؟!

البلاء فينا، وما غزو الآخر لنا إلا عرض من أعراض المرض، لا المرض نفسه!

في النهاية، لا يلام «الأجانب» من أميركيين أو أوروبيين إن هم جربوا فينا أو حاولوا التخلص من مشكلة متعصبينا بالتجريب فينا لتطويرنا إما بالغزو العسكري، كما هو نهج بوش الابن، أو بالنهج الناعم، كما هو نهج أوباما وكلام الجنرال البريطاني أو الكاتب الأميركي، لكن يلام أهل الدار الذين يجب عليهم أن يقلعوا شوكهم بأيديهم، حتى لا يأتي أحد من الخارج يقلعه لهم أو يقول لنا: مجتمعاتكم بطبيعتها تحب المتعصبين، فهل نحارب كل المسلمين؟

[email protected]