ماذا يجري في فتح

TT

صخب مفاجآت المؤتمر السادس، أخفى تحته تفاعلات شديدة الخطورة.. تم التكتم عليها بحكم حاجة الجميع لفترة من الهدوء يقوّم فيها كل فخذ من أفخاذ العشيرة، ما حدث له ومعه، كي يتخذ مكانه في الصراع الداخلي، ويطرح أجنداته القريبة والبعيدة.

ولأن فتح ليست حركة متماسكة في الأساس، ولا يجمع أفخاذ عشيرتها غير الاسم والانتماء له، فقد أصبح الصراع الداخلي فيها، أقوى بكثير من صراعها مع أي طرف منافس، وهذا بحد ذاته يبدو كافيا لتفسير مسلسل الإخفاقات الكارثية التي هزت بناء الحركة من أساساته، وأرغمتها على خسارة مساحات واسعة من أرض نفوذها التقليدي على الصعيدين الوطني والقومي.

فيما مضى كان الصراع الداخلي في فتح، يفرز انشقاقا علنيا يفضي إلى طلاق لا رجعة عنه بين المنشقين وبين الجسم الأساسي لفتح وعرابه آنذاك ياسر عرفات، ولقد حدث ذلك أكثر من مرة، لعل أخطرها وأعمقها ذلك الانشقاق الذي اخرج عرفات وقواته من الجغرافيا السورية واللبنانية في عام 1983 إلا أن شخصية عرفات، ودأبه وقدرته على الحركة وجمع الأنصار، أنجت حركة فتح من تشرذم متواتر، وأعادت للحركة مكانتها، وثبتت وحدتها، وبداهة أن يؤدي ذلك إلى عزل المنشقين وتقليص نفوذهم إلى ما يقارب الصفر.

وبعد غياب عرفات - الذي غابت معه كل القدرات التي استفادت فتح منها في صراعها على الزعامة الوطنية، بل واعتمدت عليها - لم يعد ممكنا وقوع انشقاق مثل ذلك الذي وقع في عام 1983 وذلك بحكم انتقال مركز الثقل إلى الداخل الفلسطيني، وانحسار التأثير الخارجي وخاصة العربي منه في أضيق نطاق، إلا أن ذلك أفرز صراعا داخليا من نوع جديد، ظهرت فيه حدة مبالغ فيها في الاقتتال على المواقع والنفوذ، إلا أن عرفات الذي كان ما يزال على قيد الحياة، كان بمكانته وتأثيره على الجميع، يمتلك قدرة فعلية على تنظيم محصلة الصراع الداخلي، والنأي بتفاعلاته عن الانشقاقات الحاسمة والقطعية، فاردا كوفيته السحرية على كل شيء، مستخدما ما في جعبته من وسائل ترهيب وترغيب والثانية كانت هي الأجدى.

لم تكن سيطرة الحالة العرفاتية على اتجاهات وخلاصات الصراع الداخلي، نوعا من الحلول لهذا الصراع وإنما تأجيلا له، لذا.. لم يكن مستغربا أن ينتظر كل صاحب أجندة خاصة، غياب عرفات حتى يشهر أهدافه، فكان المبادر الأول والمستفيد الأول كذلك، هو حركة حماس، التي انقضت على فتح وأخرجتها من حلبة غزة بالضربة القاضية.. وقيل دون عناء.

استمرأت فتح كلها، مواصلة الصراع الداخلي، وكانت قد خسرت الانتخابات التي هي من صلب مشروعها السياسي، وخسرت غزة التي هي حاضنة ولادتها الأولى، ومركز سلطتها الأول، وخسرت الكثير الكثير في الضفة، ليس بذات الطريقة التي تجسدت فيها خسارة غزة وإنما بإرغامها على التعايش طويل الأمد مع حالة الشلل السياسي وتراجع النفوذ، ولقد تم تعويض ذلك بما تفعله الحكومة على الأرض، أما على صعيد آخر، فقد تجسد الفشل حين عجزت فتح عن إجراء الانتخابات المحلية رغم استفرادها بالسلطة وانسحاب المنافسين الأساسيين لها إلى ما وراء المشهد، مما أثار مخاوف حسم الانتخابات ضد فتح بتوجيه القوة التصويتية لحماس، باتجاه قوائم منافسة.. مما يوفر لحركة حماس، شهادة فاعلية مزدوجة إذ إنها تتحكم بالانتخابات رغم أنها ليست في السلطة، وكذلك من يؤدي انقلابا أعمق دون استخدام السلاح..

كان رهان فتح على أن تتجاوز كل هذه العثرات والانهيارات بإنجاز المؤتمر السادس الذي قيل نظريا إنه من أجل إعادة القوة والنفوذ للحركة المتراجعة، وقيل كذلك إنه الفرصة النموذجية لتوليد حركة جديدة يقودها ويفعلها جيل جديد من الكوادر والقادة.

كان الجمود وقلة المؤتمرات، وسطوة القادة التقليديين قد حالت بينهم وبين المواقع الأساسية التي يمارسون منها تجددهم وتجديدهم وشبابهم وحيويتهم..

وبالفعل، ومن خلال انتخابات قيل فيها الكثير إلا أن الجميع سلم بنتائجها خشية ضرب شرعية فتح كلها، تم توليد حركة جديدة إذ تغير عدد كبير من أعضاء المركزية وجاء عدد جديد، وتغير عدد أكبر من المجلس الثوري وجاء عدد جديد، فاضطر المهزومون في المؤتمر إلى السكوت إلا من بعض ردود فعل متناثرة، وظهر مصطلح فيه قدر من ادعاء الروح الرياضية: «دعونا نجرب الجدد فإن نجحوا بتقديم حركة جديدة وقوية، تتجاوز عثرات الماضي، فساعتئذ تجري مسامحة حقة عن كل أخطاء المؤتمر.. وإن تراجعت الأمور، نضع المؤتمر السادس وراء ظهرنا ونفكر في صيغة فعالة لتدارك التراجع ومحاولة استعادة الحيوية والقوة والنفوذ»..

المتعارف عليه عالميا.. أن تعطى أي قيادة جديدة أو إدارة جديدة، مائة يوم كي تظهر ما لديها من توجهات ومقدمات نجاح.. إلا أن فتح التي تزهو دائما بتميزها، وابتعادها عن استنساخ قيم الآخرين حتى لو كانت صحيحة، قد منحت القيادة الجديدة أكثر من خمسمائة يوم وكان التقويم الموضوعي للنتائج، أن الساخطين ظلوا ساخطين، أما الذين احتلوا المواقع الجديدة فأغلبهم يسجل تحت تصنيف غير الراضين.

كان المؤتمر السادس قد اخترع شبكة واقية لمن سيسقطون حتما في انتخابات المركزية والثوري، إذ لا يجوز ترك ثلاثة أرباع الكوادر والقادة دون إطار يجمعهم، فولدت فكرة المجلس الاستشاري الذي هو إطار جديد يجمع القدماء كي لا يغادروا البيت القديم، وكي يقدموا ما لديهم من قدرة على المساهمة في تطوير الحركة وتفعيل دورها.

ظهر من داخل التركيبة الجديدة من يعترض على المجلس، إذ لا لزوم له رغم أنه واحد من قرارات المؤتمر، وظهر من تحمس له وهم الأذكى ممن يسعون لترسيخ شرعيتهم عبر استرضاء رموز هامة لم يعد لها مكان في إطارات الحركة، وبين أخذ ورد جاوز الخمسة عشر شهرا، شُرع في تشكيل هذا المجلس ولا أحد يعلم متى سيصبح حقيقة مجسمة، وهل سينضم إلى قافلة الإطارات الوهمية أو الاسترضائية، أم أنه سيبذل محاولات جادة وفعالة لاستعادة قوة ونفوذ الحركة؟

ومع ارتفاع نغمة الحديث عن هذا المجلس واقتراب تثبيته ظهرت وبصوت أكثر ارتفاعا دعوات لعقد مؤتمر جديد، شريطة تفادي ثغرات التحضير والإعداد والأداء التي ظهرت بين يدي المؤتمر السادس.

كل ذلك ترافق مع موجة من التسريبات الصحافية وغير الصحافية، عن تطور الصراع الداخلي إلى حد الحديث عن ظاهرة الانقلابات الداخلية، مع تسريبات أخرى حول مجالات متعددة لا أحب الاستفاضة بالحديث عنها كي لا أساهم في دحرجة كرة الثلج التي لها من وُجِد أساسا من أجل اصطناعها ودحرجتها.

كل ذلك يجري وفتح في عين العاصفة، وعلى لوحة هدف التصفية، ليست فتح كتشكيل وإنما كدور ومحتوى ورمز، فهي صانعة المشروع الوطني الحديث الذي بدأ بالاحتضار منذ الانقلاب وحتى اليوم، وهي حامية الوحدة والتعددية، في الوطن والشتات إلى درجة أن رمزها عرفات كان يفاخر بأنها راعية لديمقراطية البنادق وحارسة للوحدة الوطنية.. وإذا بالوحدة تمزق الوطن من على أرض الوطن وفي ظل استمرار احتلال الوطن، أما عن آفاق المخرج من المأزق، فكل يوم يمر دون اتخاذ خطوات جريئة ومنسقة وجدية، يجعل الخروج من المأزق أمرا قريبا من الاستحالة.

إن ما يجري في فتح ليس كله من صنعها، إلا أن مقولة إن القلاع تسقط من داخلها تصدق في وصف صلة الصراع الداخلي بالمصائر، إنها صلة أكبر بكثير، وأكثر تأثيرا من صلة الأعداء الصريحين والمباشرين.

إن فتح ليست تشكيلا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله، إنها حالة فإن ضعفت ضعف معها كل ما ترمز إليه وأن قويت قوي معها كل ذلك.