أيام الصحافة.. يوم مع فريد هلدي

TT

أشرت في مقالتي السابقة إلى الحفل التأبيني الذي عقد في لندن لذكرى القصيبي. تزامن ذلك مع حفل تأبيني لعلم من أعلام الاستشراق البريطاني. أقصد به فريد هلدي الذي توفي مؤخرا في إسبانيا. لم أستطع حضور ذلك الحفل لتضاربه مع موعد آخر لي. وموعد مع أحياء أسلم وأهم من موعد مع الأموات. ولكنني سأعوض يا صديقي المتوفى بهذه المقالة التأبينية.

عرفت فريد هلدي عندما كان تلميذا في سواس (مدرسة الدراسات الشرقية الأفريقية - جامعة لندن). جمعتنا ميولنا اليسارية وانخراطنا تحت لواء اليسار الجديد الذي وقف ضد ما كان يجري في أوروبا الشرقية وكل انتهاكات الشيوعية لحقوق الإنسان. بقيت أنا أراوح في مكاني في حين راح هلدي يقفز طفرة فطفرة حتى أصبح أستاذا برتبة بروفسور في مدرسة الدراسات الاقتصادية التي أسسها اليساريون الإنجليز في الثلاثينات، ونالت هذه المكانة المرموقة في العلوم الاقتصادية والسياسية. كنا نلتقي بين الفينة والفينة. يدعوني هو للمشاركة في نشاطاته وأقابله أنا، المثل بالمثل. جمعني وإياه أيضا تعلقنا بالسخرية والفكاهة. فراودنا هذا الحلم اللطيف في أن نشارك في تقديم أحاديث ما بعد العشاء after dinner speeches، ذلك التقليد الإنجليزي الظريف في ممالحة الضيوف بما لذ من النكات والطرائف المناسبة للمأدبة. غير أن المرض الطويل الذي داهم الزميل بدد هذا الحلم.

تعلم هلدي اللغة العربية وتخصص في شؤون الشرق الأوسط فنشر عدة كتب مهمة عنه. خطر لحكومة صدام حسين في السبعينات أن تكسبه لجانبها. كانت السبعينات أيام خير بالنسبة لنظامه وجادت بالكثير من الخيرات على الشعب العراقي. وخلالها شكلوا الجبهة الوطنية التي ضمت الحزب الشيوعي أيضا. حاول المسؤولون استغلال ذلك لكسب الأوساط اليسارية العالمية. كنت عندئذ أعمل استشاريا في المركز الثقافي العراقي الذي أقاموه في لندن. وكان من مهماتي دعوة الصحافيين والمفكرين الأجانب والعراقيين لزيارة العراق.

رن التليفون ذات يوم وكان هلدي على الطرف الآخر. «خالد، إنني مدعو لزيارة بلدك. أريد أن ألتقي بك أولا». شملت مهماتي استضافة المدعوين لتناول وليمة غداء والتحدث إليهم. جلسنا في مطعم ليسي في توتنم كورت رود. كان الضيف يكره البعث ونظام صدام. فروى لي من الوقائع ما لا أستطيع حتى الإشارة إليه هنا ورغم فوات كل هذا الزمن. بادرني بالسؤال: «ما رأيك؟ أروح أو ما أروح؟» قلت له، اسمع فريد، من الواضح أنك تعرف عن أحوال العراق الحقيقية أكثر مما يعرفه صدام حسين وكل زعماء البعث. ستجلس مع المسؤولين وتسمع منهم شرائط من الكذب. لماذا تضيع وقتك؟ فضلا عن ذلك، سينتظرون منك أن تتعاطف معهم وتمدح نظامهم. إذا بقيت على موقفك السلبي فربما ينتقمون منك بأساليبهم الخاصة. لا أحد يستطيع أن يضمن لك سلامتك هناك».

أكلنا طعامنا وشربنا شرابنا ودفعت الفاتورة على حساب البعث، وخرجنا صامتين حتى وصلنا محطة المترو. التفت إليّ وقال: «لا. لن أذهب للعراق». صافحته بحرارة وانصرفنا.