حرب طويلة للغاية!

TT

لم يكن سهلا على باراك أوباما أن يصل إلى سيول حيث اجتماع مجموعة الدول العشرين الاقتصادية الكبرى دون أن يمر على إندونيسيا ويلقي فيها خطابا آخر موجها إلى العالم الإسلامي. فقد خرج الرئيس الأميركي مجروحا من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس وكان أمامه واحد من خيارين: إما أن يبدو مصمما على برنامجه الانتخابي الأصلي على أمل أن يبدأ هذا البرنامج في إعطاء بعض الثمار خلال العامين المقبلين وقبل الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ أو يصنع برنامجا آخر بطاقم جديد يتيح له صنع بداية جديدة مع الجمهور الأميركي لعل وعسى يمنحه فرصة أخرى، وأربع سنوات إضافية في البيت الأبيض.

ومن قراءة الطالع، وفيما يبدو، فإن صاحبنا ذهب إلى الاختيار الأول، إما لأنه يعتقد فيه بشدة، أو لأنه لا يوجد لديه خيار آخر جدي يعطيه مزايا على الجمهوريين الذين يزدادون غلوا بعد أن انتابتهم حركة «حفلة الشاي» برعدة وطنية قد تكون سببا في إخفاقهم، ومن يعلم فقد يكون الجمهور الأميركي قد تغير تماما وبات على استعداد لإعطائهم فرصة في البيت الأبيض.

خطاب إندونيسيا كان عودة إلى البرنامج الأصلي، فجزء غير قليل من متاعب أوباما جاء من تعثره في الوصول إلى نتيجة يعتمد عليها في حربي العراق وأفغانستان، وفى الحالتين فإن إيران - العدو الموعود - حصلت على مزايا استراتيجية غير قليلة. ولكن الرئيس الأميركي يعلم تماما أن المعضلة ليست فقط في الحربين بل إنها باقية في ساحة ممتدة لها مسارحها المختلفة، وقد ظهرت مؤخرا في ابتكارات إرهابية ظهرت في نيجيريا واليمن، ومن يعلم ما الذي سوف يجري في السودان بعد أن باتت العراق وأفغانستان وباكستان مصانع لإنتاج درجات متقنة من الإرهاب.

خطاب أوباما في إندونيسيا لم يكن مختلفا كثيرا عن خطاب القاهرة، وربما كان الاختلاف الواضح هو أنه لم يعط حسابا دقيقا لما جرى بين الخطابين، وكان كل ما اكتشفه هو أن الواقع أكثر تعقيدا بكثير مما هو متوقع، وأن صنع التفاهم بين العالمين الغربي والإسلامي سوف يستغرق وقتا طويلا. ولم تكن القضية كامنة في التبشير بأنه لا توجد حرب من العالم الغربي ضد الإسلام كدين عظيم، ولكنها حرب ضد مسلمين منحرفين بالتعصب والتشدد.

ومثل ذلك قد يكون صحيحا، ولكن ما هو غائب هو ما يجرى من انحراف وتعصب داخل الغرب نفسه. فما إن سقط سور برلين ومعه الحرب الباردة والاتحاد السوفياتي حتى كان فرانسيس فوكوياما يعلن «نهاية التاريخ»؛ ولم يكن ذلك اعتقادا يخص واحدا من الفلاسفة، بل كان نظرة شائعة جعلت بقية العالم تتساءل عما إذا كان قد بقى لها دور في صياغة الزمن القادم. وبشكل عام فإن عقد التسعينات من القرن الماضي كان مبشرا بهيمنة غربية مقلقة نتيجة العولمة والتقدم؛ وحتى عندما جاءت حروب البوسنة وكوسوفو والأزمة الاقتصادية الآسيوية فقد كان الظن أنها مجرد عقبات صغيرة تقف أمام مسيرة مظفرة.

ولكن لم تكن المعضلة التاريخية واقعة فقط عند أعتاب المؤمنين بالتقدم الذي يقوده العالم الغربي؛ وإنما جاءت أيضا من جانب المتشككين الذين سرعان ما بدأوا البحث عن عدو آخر كان هذه المرة تحت اسم «الخطر الأخضر» لكي يحل محل «الخطر الأحمر» المهزوم. ورغم أن صمويل هنتنغتون تحدث في «صراع الحضارات» عن ثماني حضارات متصارعة، فإن المعنى الذي بدأ ضمنيا انتهى صريحا بأنه صراع بين العالمين الغربي والإسلامي لم يكن ممكنا سلخه من رموزه ومضامينه الدينية والتاريخية.

أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية كانت الواقعة التي فجرت ما كان مسكوتا عنه منذ فترة طويلة وعلى مدى عقد من الزمان تقريبا تبلورت حرب من نوع جديد كما هو الحال في كل الحروب العالمية. فقد كان الغرب مصرا على أن هناك هجوما كاسحا على القيم الغربية؛ وكان المسلمون يعتقدون أن العولمة والتغريب والأمركة كلها أسماء معبرة عن أمر واحد هو ما عانى منه المسلمون تحت اسم الصليبيين والاستعمار والإمبريالية والصهيونية. وكما أن لكل مواجهة أزماتها فإنه سرعان ما ظهرت أزمات مثل أزمة الرسوم الكرتونية الدنماركية التي سرعان ما قادت إلى هجمات على السفارات ومقاطعات للبضائع؛ ومعها جرى انقسام حول تلك الحدود الواقعة ما بين احترام الأديان وحرية التعبير. وجرى الحال على هذا المنوال مع قيام فرنسا بمنع الطالبات المحجبات من دخول المدارس، وجعل قس كنيسة صغيرة في الولايات المتحدة العالم يقف على قدميه لأنه كان مصرا على حرق القرآن، وكاد الأميركيون يدخلون معركة في شوارع نيويورك عندما طرح المسلمون فكرة بناء جامع قرب أو في مكان واقعة تدمير برجي مركز التجارة العالمي، وفي بغداد قام الإرهابيون من «القاعدة» بقتل المصلين في كنيسة للكاثوليك مطالبين بالإفراج عن سيدتين يزعمون أنهما أسيرتان في الكنائس المصرية الأرثوذوكسية.

وكما هي العادة في كل الحروب العالمية فإن انقساما يجري في كل معسكر بين من يريدون للصراع أن يتصاعد إلى مرحلة المواجهة المسلحة، وبين من يرون مجالا للتفاهم خاصة أن حدود الخصومة ليست بهذا الشكل المتصور، كما أن المصالح المشتركة لا يمكن تجاهلها. هذه المرة فإن الصراع لم يعد فقط بين المواجهة والتفاهم، وإنما بات انقساما فكريا حادا داخل كل طرف. وفي العالم الإسلامي فإن الضحايا نتيجة أعمال المتطرفين كانوا أكبر بكثير ممن سقطوا نتيجة الحرب مع أميركا وحلفائها الغربيين. وفي دراسات كثيرة فإن نسبة الضحايا في الحروب والعمليات الإرهابية الذين سقطوا بيد المسلمين فاقوا 95%. وفي الغرب فإن النتيجة لم تكن فقط وضع قيود على «العولمة» الاقتصادية، بل الأزمة الاقتصادية العالمية ذاتها، وبين هذا وذاك حالة من الاستقطاب الآيديولوجي والفكري والسياسي بين الليبراليين والمحافظين لم يحدث مثيل لها من قبل في العالم الغربي.

انتهاء الصراع ليس قريبا مهما كانت خطابات أوباما بليغة لأن الحقائق تاريخية بأكثر مما هي سياسية. وقد كان ممكنا للأزمة العالمية الاقتصادية أن تقرب الجميع، ولكن المعضلة كانت أعمق من الفشل في القضاء على أسامة بن لادن، ولكن لأن هناك قضايا رئيسية تجعل الجذوة مشتعلة ويقع في مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية التي يعلم أوباما تماما أن الفشل الكبير فيها لن يعطيه آذانا مستمعة مرة أخرى كما كان موجودا في القاهرة، وكان غائبا في جاكرتا. ففي مصر كانت الشعلة قادمة بفكر غربي جديد؛ ولكن في جاكرتا كان الفكر الجديد باديا وقد عجز عن النجاح في اختبار المواجهة مع إسرائيل.