أوهام التعايش الطائفي وجدل المقارنات

TT

يهتم كثير من الناس بعقد المقارنات بين التجارب المحلية أو القومية والتجارب العالمية الغربية منها تحديدا ثم بعض التجارب الشرقية في الآونة الأخيرة، غير أن هذه المقارنات تتميز غالبا بأنها تأتي ملونة سلفا باختلاف الدافع من المقارنة، إذ إنها في كثير من الأحيان لا تكون لدافع معرفي بحت أو بأدوات موضوعية وإنما هي مقارنات تتحدد نتائجها سلفا بحسب الوجهة التي تنطلق منها وتأتي محملة بحمولات دينية أو آيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية، ويكون الهدف الأساس من عقد المقارنة هو التماس الشواهد للتدليل على صحة التوجه أو التأكيد على صواب الاتجاه، فهناك تيار يسعى من المقارنة إلى بيان فساد نظم وعقائد الغرب الكافر أو الشرق الوثني في جميع مسائل الحياة بدءا من الديمقراطية ومرورا بالحريات وعمل المرأة وتسليع الإنسان وانتهاء بفوضى تناول الأطعمة والأشربة وممارسة المحرمات المنهي عنها شرعا، وهناك تيار آخر يسعى من عقد المقارنة إلى بيان تخلفنا عن الركب وبيان أن النموذج الغربي أو الشرقي هو الخلاص مما نحن رازحون تحته من موروثات وممارسات كبلت الأمة عبر العصور، وتيار ثالث يسعى إلى التوفيق للتلفيق على حد تعبير أبي منصور الثعالبي قبل ألف عام، وهو تيار من يؤثر السلامة ويحاول ألا يغضب أحدا أو يهرب من التصنيف أو يظهر بمظهر المعتدل الحكيم والوسطي الرصين ثم يقدم حلا بلاغيا أكثر من أن يكون عمليا متماسكا، يحتوي على بهرجة الشعارات أكثر من أن ينهض على آليات التطبيق.

من يرجع إلى أدبيات الخمسينات وحتى أوائل السبعينات يجد معلقات غزلية في التجربة اللبنانية وتعايش الطوائف والمذاهب والكيمياء السحرية التي صبغت بقعة صغيرة لا تتجاوز مساحتها العشرة آلاف كيلومتر مربع إلا قليلا وسط شرق أوسط ملتهب وصاخب بالانقلابات العسكرية والإعدامات الجماعية وصدامات مسلحة واحتلال غاشم في جميع دول الجوار في تلك الفترة على اختلاف في السنة والجرعة الدموية، مقارنين ذلك بدولة سويسرا الاتحادية التي تتكون من 26 كانتونا يتحدث أربع لغات هي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومنشية وتتوزع ديانات سكانها بين المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية والإسلام واليهودية والبوذية والهندوسية والملحدين واللاأدريين، غير أن من يستمع هذه الأيام إلى القنوات اللبنانية الفضائية والأرضية ويقرأ صحفها على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها ويسمع تصريحات بعض النواب بأن الفريق الآخر لن يصمد أكثر من ساعتين يظن أن طبول الحرب قد قرعت وليست أجراس العودة التي بشرت بها فيروز.

مقارنة التجربة اللبنانية بالتجربة الماليزية أيضا غير صحيحة رغم التشابه بينهما في موضوع التعدد الديني والعرقي، فماليزيا بأغلبيتها المسلمة تحتوي أيضا على ديانات أخرى كالبوذية والمسيحية والهندوسية والكونفوشية والطاوية وعرقيات مختلفة هي الملايوية والهندية والصينية وبعض العرب والغربيين والفيتناميين، لكن الاختلاف يكمن، فيما عدا الجانب الجغرافي والديموغرافي والثقافي، في نظامها السياسي الذي يشبه إلى حد كبير نظام وستمنستر البرلماني المحكوم بتحالف سياسي متعدد الأحزاب وليس عبر كوتة حزبية في ظل ملكية انتخابية دستورية فيدرالية.

لم يعد التنوع الديني أو المذهبي أو العرقي وترا مغريا بالعزف عليه كما لم تعد الخطب العاطفية الرنانة في طرح نموذج للتعايش داخل المجتمع تثير شهية نخبه وجماعاته أو تعطي ميزة لمجتمع دون آخر، إذ ليس هناك مجتمع نقي أو صاف بعد اكتشاف أدغال أفريقيا ومجاهل حوض الأمازون، وبدأت مساحات المجتمعات الكوزموبوليتانية تتمدد أكثر في مختلف بقاع الأرض، وقلما تخلو دولة من الدول من تنوع ديني أو مذهبي أو عرقي، لذلك فإن الحديث عن تجربة لبنان منذ خمسينات القرن الماضي ومقارنتها بتجارب شرقية وغربية إنما هو جزء من الخطاب العاطفي الذي كان سائدا في تلك الحقبة فيما سارت الأمور على الأرض باتجاه المحاصصة الطائفية التي وإن قامت بدورها في تهدئة الأمور الساخنة كلما تأزمت الأوضاع فإنها في نهاية الأمر تنزع الفتيل ولكنها لا تزيل الألغام، وتعطي تلال مرجعيون نموذجا مصغرا لما يحدث فيها، فهناك ألغام كثيرة زرعت من عدة أطراف وعندما هدأت الحرب واختفى جيش لبنان الجنوبي وميليشيات سعد حداد وأنطوان لحد وانتشر الجيش اللبناني والمقاومة اختفى الكثير من خرائط الألغام إما عمدا أو عن غير قصد، ثم جاءت دول عديدة عربية وأجنبية لتساعد في إزالة الألغام دفعت فيه من مالها ومن حياة بعض رجالها في سبيل تنظيف المنطقة من الألغام ولكن تعارض مصالح بعض الفرقاء عطل هذه المهمة وعرقل العملية أو هدأ من وتيرتها، في حين كان المتضرر الأول والأخير هم أهالي المنطقة.

ما يمكن أن يحقق الاستقرار هو دستور وطني واضح على مقاس الوطن وليس مفصلا حسب الطلب، ونوايا صادقة من الجميع في تطبيق هذا الدستور على جميع أبناء الوطن دون تمييز أو امتيازات، ويكفل حق الجميع بصرف النظر عن اللون أو الدين أو المذهب أو العرق، ويتحقق بذلك الاستقرار للبلد، وفي ظل هذا الاستقرار تقوم نهضة حقيقية تنبع من القاع وليس في فقاعات أو جزر منعزلة، معتمدة على الموارد الحقيقية وليست المعونات الخارجية الموجهة، وعندها فقط يمكن أن نفهم لماذا صارت سويسرا أغنى دولة وماليزيا نمر آسيا القوي ولبنان خرج من حرب أهلية وعلى مشارف نفق معتم والعراق اسفنجة مليئة بالثقوب تمتص الماء ولا تمسكه.