آخر مدن المشرق

TT

سماه الفرنسيون «المشرق». وكانوا يقصدون به جزءا صغيرا من الشرق الكبير. والحقيقة أن الترجمة الحرفية للكلمة هي الشروق، أو الارتفاع. أي بلاد الشمس الشارقة في حوض المتوسط الشرقي، اليونان، تركيا، سورية، لبنان، فلسطين ومصر: «المشرق منطقة وحوار ومرتجى»، يقول المؤرخ فيليب مانسل في مؤلفه الجديد حامل الاسم نفسه: المشرق.

أما العنوان الفرعي فأكثر توضيحا وشمولا: «الروعة والكارثة على المتوسط». ومن أجل سرد الاثنتين، يختار مانسل ثلاث مدن ساحلية: بيروت، الإسكندرية وسميرنا التركية. فقد كانت هذه المدن خلال القرن التاسع عشر الأكبر والأغنى والأكثر تعددية، فيما عدا اسطنبول. ومن خلال مواقعها في تركيا ومصر ولبنان، شكلت الخط الأمامي بين الإمبراطورية العثمانية وأوروبا، وبين الشرق والغرب.

كان قدرها متناقضا: هي نوافذ الانفتاح على الغرب وهي مراكز التمرد عليه وهي أهداف بوارجه الحربية. مدن متوسطية وشرق أوسطية معا. عثمانية وأوروبية. قومية ودولية. مدن مختلطة تجاورت فيها المساجد والكنائس والمعابد اليهودية. وحتى الأسماء عكست التنوع: سميرنا اسم يوناني منذ القرن السادس قبل الميلاد، والإسكندرية بناها الإسكندر المقدوني، وبيروت كلمة فينيقية تعني الربيع.

أحيانا تغير المدن تاريخ بلدانها. كما غيرت باريس تاريخ فرنسا، هكذا أعطت بيروت لبنان من تاريخها، وتأثرت مصر بتاريخ الإسكندرية، ودفعت سميرنا تركيا بتحولاتها، إلى أن حملت اسمها التركي، أزمير. وكادت مدن المرافئ تكون بلا هويات ثابتة، بعكس مدن الداخل.

ويعطي مانسل مثالا على فسيفساء المدن، اليوناني قسطنطين كافافي، الذي كان أشهر شعراء الإسكندرية في الغرب، كما يرى نموذجا آخر في كتاب بيروت، الذين صدرت مؤلفاتهم بالفرنسية والإنجليزية والعربية، ويفوته ذكر كميات الكتب (والصحف) الصادرة بالأرمنية. لكن في المدن الثلاث أيضا برزت الحركات الأولى ضد الغرب: الرصاصة الأولى في حرب التحرير التركية في أزمير، العام1919 ، وحركات الثورة العربية التي بدأت في بيروت، وخروج جمال عبد الناصر من الإسكندرية.

بعد السرد التاريخي يخلص مانسل إلى أن بيروت «هي آخر مدينة مشرقية» لكنه يخشى ألا تبقى طويلا كذلك. ويقول إن بيروت سائرة في الطريق إلى أن تصبح، مثل سواها، مدينة لا تنوع فيها.