نصارى العراق والمدنية الحديثة

TT

اعتدنا واعتاد الغربيون على القول بأن النهضة الأوروبية والازدهار العلمي في الغرب يعود لحد كبير لفضل العرب والمسلمين في الحفاظ على التراث اليوناني واللاتيني وانتقاله للغرب. الحقيقة أن الفضل في ذلك يعود للنصارى. فهم الذين حافظوا على ذلك التراث ثم ترجموه للعربية التي أصبحت لغة الفكر والحضارة في أيام الخير. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، أول من حث على هذه العملية فشجع زيد بن ثابت على تعلم اللغة السريانية التي أصبحت معين الفكر الكلاسيكي.

كان المسيحيون الموحدون (من آمنوا بوحدانية الله على طريقة الإسلام) قد تعرضوا في أوروبا إلى اضطهاد المؤمنين بالثالوث، فهربوا في القرن الخامس الميلادي إلى الشرق واستقروا في مدينة الرها بشمال العراق، ثم انتقلوا إلى الأحواز وأنطاكيا. نقلوا معهم تراث اليونان والرومان. وقاموا بترجمته إلى السريانية (لغة نصارى الموصل). انتبه الأمويون لأهمية هذا التراث فقام خالد بن يزيد آل مروان بدراسته وكلف الرهبان ترجمته. توسع بهذه الحملة الخليفة عمر بن عبد العزيز، وسرعان ما تعاظمت في العهد العباسي، لا سيما في عهد المأمون. ظهرت عدة مدارس حول كنائس العراق والشام ومصر تولت عملية الترجمة والنقل. كان من نجومها ابن توما الرهاوي وجرجيس بن جبرائيل وابن ماسويه وابن حنين وحنين بن إسحق الذي أنجز ترجمة 95 كتابا إلى السريانية و39 كتابا إلى العربية.

كان معظم هذه الكتب يتناول الفلسفة والعلوم كالهندسة والرياضيات والطب، بما جعل الخلفاء يعتمدون دائما على الأطباء النصارى لمعرفتهم بعلوم اليونان. فحكي أنه لما مرض أبو جعفر المنصور وتعذر علاجه، جيء له بطبيب مسيحي من جنديسابور في الأحواز، جرجيس بن بختيشوع. وبعد نجاحه في معالجة أمير المؤمنين ذاع صيته في البلاد وأصبح آل بختيشوع من الأسماء الذائعة في مدينة بغداد. والطريف أن مهنة الطب ظلت ليومنا هذا من تخصص النصارى، واعتادت أمهاتنا على أخذ ابنهن المريض لحكماء «عقد النصارى» وعرضه لبركة قسوس الكنيسة.

وكما نعلم، كان من آثار ذلك، اطلاع الفلاسفة المسلمين على ما أنجزه الإغريق والروم من قبل، لا سيما في تحكيم العقل والمنطق والملاحظة العلمية والمقاربة الرياضية. تأثر بكل ذلك بصورة خاصة المعتزلة في بغداد شرقا، وابن رشد وابن خلدون في الأندلس غربا. ظهرت عندئذ هذه الموضة العقلانية والعلمانية فانتشرت الأفروشتية (نسبة إلى ابن رشد) انتشار الماركسية والوجودية في عصرنا هذا، وسرت كالنار في الهشيم في عموم الحواضر الأوروبية، ولفتت نظر الغربيين لا إلى ابن رشد فقط بل إلى سقراط وأرسطو وأفلاطون وإقليدس أيضا. ونحن نعرف اليوم ما انتهت إليه هذه الموجة. كل ما في بيوتنا وشوارعنا من معالم الترف يعود إليها، لأولئك الرهبان البسطاء الذين انكبوا في صوامع كنائسهم في بغداد والموصل وأنطاكيا والإسكندرية يصلون الليل بالنهار والنهار بالليل في ترجمة ونقل ذلك التراث الأساسي للمدنية وخدمة الإنسان.