هل يملك الحزب السياسي في المغرب استعادة الثقة؟

TT

الحديث بالمفرد عن الحزب السياسي في المغرب هو من قبيل إنابة المفرد عن الجمع، كما تقضي بذلك القاعدة البلاغية المعروفة، وهو حديث عن العام والمشترك اجتنابا للخوض في التفصيلات، فهذه تتصل بالمبادئ والبرامج والاختيارات المذهبية والتعميم فيها مظنة الخطأ والإجحاف، وذلك ما لسنا نريده. يعني قولنا هذا، بعبارة أخرى، إن حديث التفصيل يقتضي تسمية الحزب باسمه الذي هو له وليس هذا قصدنا اليوم. والقصد باستعادة الثقة مزدوج فهو يفيد، من جانب أول، استعادة ثقة الجماهير الشعبية في الحزب ويفيد، من جانب ثان، استعادة الحزب ثقته في النفس، ذلك أن الثقة اليوم مهتزة ضعيفة في الحالتين معا والحق أنها في الجانب الثاني أشد ضعفا وأكثر اهتزازا. وإذ نريد لكلامنا أن ينصب على هذا الجانب الأخير، الأدهى والأمر، فإننا نوجز الوقوف عند الجانب المتصل باستعادة ثقة الجماهير الشعبية في الحزب حتى نفرغ للقضية الأساس إذن.

استعادة الجماهير الشعبية ثقتها في الحزب السياسي وفي قدرته على العمل والتأثير الإيجابيين في الحياة السياسية السليمة وفي الممارسة الديمقراطية الحق أشبه بحال الواقف عند سفح الجبل الشامخ في يوم عاصف يطلب منه الصعود إلى حيث يكون الاستواء فوق الجبل.لا غرو أن الجهد لا يكون يسيرا ولا شك أنه يستدعي إرادة صادقة غير أن العمل ليس مستحيلا. ما نحسب أننا في حاجة إلى التدليل على مظاهر ضعف ثقة المواطن المغربي في الحزب السياسي، كما أننا في غنى عن تسطير المؤشرات الدالة على ذلك (لعل ظاهرة العزوف عن المشاركة السياسية القوية تفي، بمفردها، في التعبير عن ذلك الضعف وفي شرح أسبابه معا). غير أننا، مع ذلك، نقول إن استعادة الثقة تظل، حتى الآن، واردة وممكنة ونحن نرى أن الجماهير الشعبية في المغرب في حاجة إلى تلقي إشارات قوية صادقة وواضحة، إشارات تشي بوجود الإرادة السياسية لدى الحزب قصد مراجعة الذات والقيام بالعمل المضني والعسير: عمل النقد الذاتي. من تلك الإشارات الحرص على الحضور الجسماني، أولا، في البرلمان بغرفتيه. فيا لها من صورة صادمة حال الجلسات البرلمانية التي تقل فيها نسب المداومة والحضور عن ربع أعداد ممثلي الأمة. ثم الحضور الفاعل، ثانيا، وذلك بالمشاركة الفعالة في تسطير القوانين وإلا فكيف يجوز اعتبار النائب البرلماني مشرعا ينوب عن الأمة؟ ومن تلك الإشارات توخي النزاهة والمصداقية في قبول العضوية في الحزب عوض اللهاث وراء اقتناص أعضاء جدد مبلغ علمهم مال كثير أو جاه عريض و«قدرة» على الوصول إلى البرلمان أيا كانت السبل والوسائل. ومنها أيضا إعادة النظر في الحياة الداخلية للحزب من حيث المسؤوليات والمكافآت... وثاني الشرطين توجيه العمل الحزبي وجهة التكوين السياسي والتوعية بالقضايا الكبرى للأمة والانكباب على اقتراح الحلول والبدائل المفيدة والواضحة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ضوء رؤية سياسية واضحة أو تتوخى الوضوح والتطوير. ذلك أنه لا ممارسة ديمقراطية سليمة دون أحزاب سياسية قوية، سليمة، ذات درجة عالية من المصداقية. وإذن فالجماهير الشعبية تنتظر من الحزب السياسي في المغرب إشارات سياسية أخلاقية معا.

ما القول الآن في استعادة الحزب السياسي في المغرب ثقة في الذات تشي مؤشرات شتى بافتقاده لها؟

لا غرو أن أول الدرب على هذا النحو هو وعي الحزب بهذا الواقع والتوافر على الإرادة الصادقة في مجاوزته. ومتى كان الشأن كذلك فإن ما عرضنا له أعلاه من شروط يظل، بطبيعة الأمر، صالحا في الحديث عما يلزم الحزب من أجل الارتفاع فوق واقع الضعف. متى تقرر النقد الذاتي سبيلا للانطلاقة الجديدة الصحيحة فإن الخطوات التي يتعين القيام بها تغدو جلية واضحة. قد يلزم التنبه فقط إلى أمرين اثنين يستوجبان التنبيه إليهما حين الحديث عن الحياة السياسية في المغرب. الأمر الأول أن نظام الملكية الدستورية الذي ارتضاه المغرب منهجا في الحكم يستدعي، بطبيعة الأمر، وجود تعددية حزبية كما يمنع، بنص الدستور، نظام الحزب الوحيد ولهذا الاختيار وجه آخر، ربما كان في حاجة إلى بعض التوضيح، هو أن الممارسة السياسية تستدعي وجود الأحزاب السياسية من أجل توعية المواطنين ومن أجل بلورة اختيارات واضحة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع مما لا يتعارض مع الثوابت الكبرى التي ارتضاها المغاربة، وهي الإسلام والملكية الدستورية والوحدة الترابية والتلاحم العضوي بين المكونات البشرية للأمة المغربية، وكذا كل المبادئ التي يقررها الدستور المغربي، وهذا هو الأمر الثاني الذي يستوجب التأكيد عليه. متى تقرر الأمر في الأذهان على هذا النحو فإنه يكون لنا أن نقترح جملة خطوات يكون الإقبال عليها من الحزب السياسي في المغرب التماسا للفعالية والتطور الإيجابي.

أما الخطوة التي تتلو عمل النقد الذاتي مباشرة فهي تلك التي تكمن في إعادة ترتيب البيت من الداخل أو لنقل، في عبارة أخرى، هي الإقدام على تفعيل ديمقراطية فعلية يكون بها بعث الآمال في النفوس وإعطاء إشارة قوية إيجابية للرأي العام في البلد، ويعلم الله كيف أن الحاجة إلى ذلك كبيرة. ربما وجب أن نقول إن الإقدام على هذه الخطوة (العسيرة بالنظر إلى ما تراكم من ممارسات سلبية طيلة عقود كثيرة) هو الترجمة العملية لإرادة التغيير المأمول. وأما الخطوة الثالثة فمفادها يوجد في جعل الهدف المرام، قصد بلورة رؤية واضحة في العمل السياسي، فهي التماس الوضوح النظري في التخطيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. هل نحن في حاجة إلى التذكير بالحقيقة الأولية التي تفيد بأنه لا عمل سياسيا ناجع مع غياب الوضوح في الرؤية، مثلما أنه لا مستقبل للنظرية السياسية دون اختبار لها على أرض الواقع، ثم لا معنى للعمل السياسي إذا لم يكن إنصاتا إيجابيا لهموم المواطن وأحلامه. إن النظرية السياسية الناجعة، بالنسبة لأمة من الأمم، جهاد وبناء مستمران ومراجعة دائبة للذات واستدعاء للنقد الذاتي بين الفينة والأخرى. قد يلزم الزعيم السياسي أن يردد مع الشاعر العربي: نعيب زماننا والعيب فينا. وما أبعد اعتراف مماثل أن يكون جلدا للذات. إنه، متى أحسنا الإصغاء، الخطوة العظيمة على درب النجاح.

قول أخير نريد أن ننهي به حديثنا في هذا الموضوع الذي يثير في النفس شجنا كبيرا: إن المستقبل السياسي الحزبي في المغرب يكمن في قيام الأحزاب القوية تلك التي تجليها أقطاب كبيرة واضحة تستحث الفعل وتحمل على المشاركة والانخراط. غير أنني أضيف فأقول إن التكتلات القطبية لا تصح متى كانت إملاءات من عل مثلما أنها تفشل وتضيع متى كان الحامل عليها حسابات سياسية رخيصة. ليس يصح إلا الصحيح.