السلام الذي يزداد ابتعادا والأثمان المدفوعة

TT

قال سلام فياض، رئيس حكومة السلطة الفلسطينية، في تصريح معبر: إن «الضمانات» والتطمينات التي تعطيها الولايات المتحدة لإسرائيل من أجل وقف جزئي ومؤقت للاستيطان، هي أخطر من الاستيطان ذاته. وقد عرف من تلك الضمانات والوعود: طائرات بـ3 مليارات دولار، والتشدد مع إيران، ومنع العرب من اللجوء لمجلس الأمن، وحماية عسكرية أميركية «رسمية» لإسرائيل (أو معاهدة دفاع مشترك) مدتها عشر سنوات، وتخزين أسلحة أميركية استراتيجية في إسرائيل تستطيع استخدامها عند الضرورة بإذن من الولايات المتحدة! ولكي لا نبدو مبالغين في تقدير ما الذي يجري بين الولايات المتحدة وإسرائيل، نضيف أن بعض هذه «الضمانات» إنما تتصل بحالة تحقق السلام.

فأولوية الولايات المتحدة الآن أمران: تحديد الحدود (حدود 1967)، وإعلان الدولة، وهي تعتقد منذ أيام بوش، أو منذ فترته الثانية، أنه يكفي فيها لإرضاء إسرائيل زيادة السلاح، وتبادل الأراضي (لإبقاء الجدار والمستوطنات الكبرى)، لكن ما فهمه الفلسطينيون والعرب، ولا تريد إدارة أوباما فهمه، أن الإسرائيليين، وليس نتنياهو واليمين وحسب، يريدون الآن من أجل الموافقة على تحديد الحدود، وإعلان الدولة، عدة أمور أخرى: السيادة على القدس، عدا الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية، وإلغاء حق العودة، بالإضافة بالطبع إلى المستوطنات الكبرى. ولا يستطيع الفلسطينيون الموافقة على شيء من ذلك؛ لأنهم بذلك يفقدون آخر أسس شرعيتهم التي دعمتها القرارات الدولية. وكانوا في أوسلو، وفي خارطة الطريق، قد اعتبروا هذه المسائل من مسائل الوضع النهائي إلى جانب الأمن والمياه. وذلك لتجنب عرقلة التقدم في المفاوضات. وقد يقال: إن الموافقة على التأجيل، واعتبار هذه المسألة أولوية، والأخرى المختلف عليها من قضايا الحل النهائي، كان خطأ استراتيجيا، ما لبث شارون والآن نتنياهو أن جرفاه مرة واحدة.

لكن ينبغي أيضا أن نلاحظ أن نوعا من الثقة بعملية السلام نشأ وتطور بين عرفات ورابين؛ إذ كان فلسطينيو عرفات على يقين من أن رابين يريد السلام، فأراد الطرفان تحقيق كل المسائل الممكنة دفعة واحدة، وضمن إجراءات بناء الثقة يمكن التوصل إلى حلول وسط في قضايا شائكة مثل الحدود والقدس واللاجئين. أما تغير المزاج الإسرائيلي ثم العربي وصولا إلى الحالة اليوم، فأمر تختلف تعليلاته باختلاف المراقبين. فمن الجهة الإسرائيلية يقول اليساريون المؤيدون أو الذين كانوا مؤيدين لعملية السلام: إن انقلاب المزاج الإسرائيلي لغير صالح السلام يعود إلى مقتل رابين على يد أحد المستوطنين ومسارعة حماس إلى العلميات الانتحارية على مدى سنوات، فاندلاع الانتفاضة الثانية.

أما الفلسطينيون فيتفقون مع اليساريين في البدء بمقتل رابين، وعدم ظهور زعيم «تاريخي» آخر يقول بالسلام. ويذكرون مثلا على ذلك كلا من شيمعون بيريس وإيهود باراك، اللذين خضعا لابتزازات المستوطنين وابتزازات اليمين، وغذت تخاذلهما الطواقم الأميركية ذات الميول الصهيونية في رئاسة كلينتون، والتي كانت تعتقد أن الضغط على عرفات وحده كفيل بالتوصل إلى الحلول. ولا ينكر فلسطينيو فتح أن هجمات حماس، والانتفاضة الثانية، أثرتا سلبا أيضا. بيد أن الذي قلب الموازين رأسا على عقب، كان وصول بوش الابن إلى السلطة بالولايات المتحدة، وشارون بإسرائيل، واقتناع الطرفين بإمكان القضاء على «الحالة الفلسطينية» بالقوة في سياق الحرب على الإرهاب! وعندما بدأ الأميركيون بالإفاقة بعد الخيبات في العراق وأفغانستان (2005 - 2006)، كان الجمهور الإسرائيلي قد صار واثقا من حلول القوة على الرغم من غياب كل من عرفات وشارون.

الطريف أنه في ذروة تطور حلول القوة الإسرائيلية، قالت الولايات المتحدة في ولاية بوش الثانية ومن دون مواربة بحل الدولتين. وفي الوقت نفسه ظهرت «الرؤية الاستراتيجية» لدى اليهود الأميركيين، التي تربط مستقبل الكيان بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وتقول تلك الرؤية: إن عدد الفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس يناهز 4 ملايين، وبجانبهم 3 ملايين في الأردن. فليس من مصلحة إسرائيل في شيء الإبقاء على هؤلاء تحت الاحتلال ومن دون دولة؛ إذ إن عددهم - بإضافة 1.5 مليون فلسطيني في فلسطين المحتلة قديما - سيفوق عدد الإسرائيليين مهما ازدادوا باليهود المهاجرين إليهم من سائر أنحاء العالم، ناهيك عن الـ3 ملايين فلسطيني في شرق الأردن. وهكذا فكل حريص على بقاء إسرائيل دولة لليهود، وجزءا من كيانات المنطقة وترتيباتها، لا بد أن يسعى إلى إقامة الدولة الفلسطينية، ومصالحة إسرائيل مع جوارها. بيد أن هذه التحليلات التي لا تزال تتوالى، ما زادت من «شعبية» فكرة السلام أو الدولة لدى الجمهور الإسرائيلي، لثقته الزائدة على الحد بالجيش وحلول القوة.

إن الواقع الآن اعتبار موضوع المفاوضات أهم الموضوعات. وهي مفاوضات تعثرت ولا تزال، لكنها في الواقع، جعلت من إسرائيل دولة من دول المنطقة، وصارت «مسائل الحل النهائي» في نظر الاستراتيجيين تفصيلية، بينما هي في نظر حكومة المستوطنين القضايا الأساسية التي تستحق الرفض والإدانة. ومن هنا سعي إدارة أوباما الحثيث، على مدى عامين، إلى حل قضية فلسطين، من أجل صون مستقبل إسرائيل من جهة، وفرض نهج التفاوض باعتباره الوحيد الموصل للاعتراف بإسرائيل جزءا من المنطقة. وهناك بالطبع أهداف فرعية مثل إيجاد دولة لملايين الفلسطينيين، وإنفاذ القرارات الدولية، وإرضاء العرب بعد الذي حدث بالعراق، والحيلولة دون تصاعد الأصوليات.

وفي المنطقة ثابتان نسبيان، وعدد من المتغيرات.. فالثابت الأول: أن أكثر من 60% من الإسرائيليين لا يزالون ضد حل الدولتين، والثابت الثاني: أنه لا أحد يعتقد اليوم أن المستوطنات والجيش الإسرائيلي قادران على إخضاع ملايين الفلسطينيين إلى ما لا نهاية. أما المتغيرات فأهمها تحطم الحركة الوطنية الفلسطينية بقيام دويلة حماس، واشتداد الصراع بين إيران والغرب على النووي، لكن أيضا على مناطق النفوذ في المشرق العربي والخليج، وأن جورج ميتشل ما نجح طوال عامين في جلب الإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات بشروط معقولة، وأنه حدث تحول تركي محسوس في الموقف من إسرائيل. وأعني بالمتغيرات هنا المسائل والعوامل التي تنفتح على أكثر من احتمال؛ إذ ما دام الأميركيون مصرين على محاولات تذليل العقبات من أمام المفاوضات، فقد تعود الطاولة للانعقاد، وإن لم يعن ذلك أن حل الدولتين ومستلزماته على الأبواب.

فيما يتعلق بالمتغير التركي، فالطريف أن الأوروبيين (والأميركيين) يقولون الآن إنهم لا يقبلون تركيا مكانا للتفاوض الغربي مع إيران؛ لأنها تؤيدها في النووي السلمي. بينما كانت علاقة تركيا بسورية وإيران قبل عامين مناط رضا الغرب، والسبب الذي من أجله قبلوا أن تتفاوض إسرائيل مع سورية تحت المظلة التركية؛ لذا فبروز «العلة» التركية مرده إلى الخلاف الذي جرى بينها وبين إسرائيل في حادث سفينة مرمرة، الذي تعتبر فيه إسرائيل أنها ما أخطأت، بينما يعتبر الأتراك أن الحادثة أبرزت نوازع العنصرية لدى الإسرائيليين، ويكون عليهم أن يعتذروا ويدفعوا التعويضات عن الخسائر التي وقعت.

ويصعب التقدير اليوم بشأن موقف تركيا من إسرائيل، وموقف إسرائيل منها؛ إذ لو ثبت هذا الموقف لكان معنى ذلك تحولا استراتيجيا في المنطقة بعد التحول الإيراني عام 1979 / 1980. بيد أن المتغير أو العامل الذي يسهل تقدير تأثيره، ويتمثل بالسلطات الأميركية وإقبالها على تغنيج إسرائيل من دون انقطاع. وهذا العامل ما لم يتغير - ولا شواهد على ذلك - فسيظل من الصعب الوصول إلى أفق حل الدولتين، وإن ظل التفاوض آيديولوجيا وواقعيا مستمرا لـ10 سنوات مقبلة.