مهنة المتاعب أم مهنة السير بين الألغام

TT

في عالم الصحافة هناك وفي كل لحظة احتمال أن تتحول الإهانة إلى جريمة والاستقالة إلى انتحار.

مرور الزمن والعتاقة في المهنة والعلاقة بين القيادات الحاكمة ووسائل الإعلام وطريقة أدائها والحدود المرسومة لها مثلا هي التي تقود إلى مثل هذا الطرح الذي لم يحدثنا عنه أساتذتنا في معاهد الإعلام.

على مقاعد الدراسة قالوا لنا «هي مهنة المتاعب»، في الحياة العملية قيل لنا هي مهنة الشجعان «قل كلمتك وامش» لكن الإعلامي المخضرم أوكتاي أكشي رئيس مجلس الصحافة التركي يقول شارحا في كتاب استقالته، هي مهنة السير في حقل من الألغام لا تعرف متى سينفجر؟ وكيف؟ وما هي الأضرار التي سيولدها الانفجار عندما يقع وكيف تدفع الثمن؟

البعض يقول إن الإبداع والمهارة خارج العمل الصحافي، هما ما يوفران للإعلامي «الناجح» فرص الوصول إلى بر الأمان ومغادرة مكتبه إلى بيت التقاعد بسلام. البعض الآخر يرى العكس مصرا على أن صحافيا تصحبه دائما روح المغامرة والحركة الدائمة والبحث عن الجديد، يقول ما عنده بصدق وصراحة حتى ولو كان يعرف أنه قد يدفع ثمن ذلك، هو الذي يستمتع بعمله ويتلذذ بإنجازاته ويهرب دائما من شبح التقاعد الذي يطارده مهما تقدم في السن.

أوكتاي أكشي.. سنديانة قديمة تتهاوى بعد أكثر من نصف قرن من الخدمة، والسبب جملة من 5 كلمات كتبها معدلا أحد المقاطع في مقالته ما قبل الأخيرة تحت عنوان «قلنا القليل»، واستقر الرأي أن تكون على النحو التالي لتوجز رأيه في سياسات الخصخصة والبيئة ومنح رخص المعامل الحرارية التي تعتمدها حكومة العدالة والتنمية «هؤلاء قد لا يترددون في بيع أمهاتهم حتى».

كان العمود الفقري لجريدة «حرييت» المعارضة التي عمل فيها لعقود بينها 25 عاما أمضاها يحمل لقب كبير الكتاب فيها. هو يقول إنه يراجع ويدقق ما يكتبه، لكنه هذه المرة تمسك بتغيير جملته لتكون أشد إيلاما في إيصال الرسالة، فوجد نفسه بين لحظة وأخرى أمام الباب يدفع ثمن عبارته هذه قبل أن يدفع ثمن أفكاره وآرائه السياسية.

أحد المدافعين عنه من زملائه قال، سألته مرة وأنا أترأس الصحيفة التي يعمل فيها إذا ما كان بمقدوري قراءة المادة التي يكتبها قبل دفعها للطباعة، فأجاب باختصار، لا طبعا، أنت تخترق هنا مساحة حريتي. فهل تتكفل عبارة واحدة بمراجعة العلاقة بين حدود حريته ومسؤوليته وبالإطاحة به على هذا النحو ودفعه إلى الاستقالة من منصبه والجلوس منزويا في بيته يلاعب حفيده الشطرنج.

أكشي قال في صباح اليوم التالي إنه بالغ في التصوير والتعبير «دست في المكان الخاطئ في حقل الألغام هذا. ما قلته لا يعني شيئا من الناحية القانونية لكنه، سياسيا، قابل للتأويل والتدوير». هو قال إنهم جعلوا من الحبة قبة، لكن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، الذي كان السباق في إقامة دعوى قضائية ضده، يقول «إذا ما كانت هذه هي عقلية الصحافة فأنا لن أقاومها بل سأحاربها». فعاد أكشي للإقرار بأنه قلب معايير وموازين الانتقاد رأسا على عقب، رغم أن كل ذلك لم يشفِ غليل مجموعات من شباب العدالة والتنمية التي احتشدت أمام الجريدة التي يعمل فيها تلوح بيافطة «الجنة تحت أقدام الأمهات»، مذكرة بأن أقل ما يهدئ من روعها هو كتاب الاستقالة والتنحي.

المؤلم أكثر هو أن أكشي البالغ 78 عاما من العمر لا يترأس فقط المجلس الأعلى للصحافة، الذي وقف إلى جانبه في هذه المحنة، بل هو رئيس اللجنة التأديبية فيه، وها هو يجلس ليحصي عدد دعاوى القدح والذم المقامة ضده أمام المحاكم من قبل قيادات العدالة والتنمية، مما دفع بالبعض للقول، يبدو أن الاعتذار والاستقالة والانزواء لن تكفي في مثل هذه المواقف، هناك محاولة واضحة لجلده.

المبالغة في الحماس والاندفاع مهددان أن يتحولا في كل لحظة إلى تهور وتطاول. أعتق الصحافيين الأتراك في المهنة يكاد ينهي تجربته الطويلة بإهانة قيادات العدالة والتنمية على هذا النحو. جرح شعور وكرامة من استهدفهم، وكان آخر ما قاله وهو يغادر إلى بيت التقاعد «خلطت الحابل بالنابل فاعذروني»، لكن أحدا لم يسمع ذلك.