خادم الحرمين الشريفين: تصديق اللقب بـ«الخدمة العظمى» الناجزة

TT

جعل الله مكة المكرمة بلدا حراما منذ خلق السموات والأرض (بنص حديث نبوي شريف رواه البخاري ومسلم) وإذا استأنسنا بالنظرية الراجحة عند جمهرة الفيزيائيين، فإننا نعرف أن بداية خلق السموات والأرض كانت قبل 15 مليار سنة، أي في تلك اللحظة التي حدث فيها (الانفجار الكبير).. وهذا مجرد استئناس، وإلا فإن النبأ اليقين هو الذي نبأنا به النبي محمد الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وآله وسلم.

هذه خلاصة موضوع الأسبوع الماضي، وتلك مشيئة الله. وذلك اصطفاؤه الكوني، تقدس في علاه، ولا إله غيره.

أما مقال اليوم فهو عن (جهد بشري إيماني) اقترن بوجود بيت الله الحرام، وهو (خدمة بيت الله) على أيدي المؤمنين بالله، الجاهرين بتوحيده - جل ثناؤه - المطهرين للبيت العتيق من كل ما لا يليق بجلاله وشرفه - معنويا وماديا – المهيئين أكنافه للطائفين والقائمين والركع السجود.

وكان (أول الخادمين لبيت الله الحرام) هو شيخ الملة الحنيفية، خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. فقد خدمه بالبناء، وخدمه بالصدع بالتوحيد فيه وحوله، وخدمه بتهيئته لقاصديه: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ».. ويلحظ – ها هنا -: أن بناء البيت وخدمته وتهيئته سبقت الأذان في الناس بالحج، مما يبرهن على التلازم الوثيق بين خدمة البيت والحج.

ولقد توالت خدمات بيت الله الحرام في مختلف العصور. فقبل الإسلام، شارك النبي – قبل البعثة – في وضع الحجر الأسود؛ حيث اختاره الناس (حكما) في نزاع بين العشائر: أيها يظفر بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه، بعد أن زحزحته السيول عن موضعه. وكان من كمال فطنته قبل البعثة أن طلب ثوبا فوضع الحجر في وسطه ثم نادى رؤساء العشائر فأمسكوا جميعا بأطراف الثوب حتى أوصلوا الحجر إلى الكعبة فحمله الفطن الأمين الحكيم – صلى الله عليه وسلم – ثم وضعه في مكانه الأصلي، وبذلك حسم النزاع برضا جميع القبائل بهذا الحل الوفاقي. كما شارك النبي قبل البعثة في إعادة إعمار الكعبة إثر ذلك السيل العرم، وكان ينقل الحجارة مع عمه العباس بن عبد المطلب.. وحين ابتعث جهر بالتوحيد عند الكعبة فلقي من قومه ما لقي بسبب ذلك.. وعندما كتب الله له التمكين فتح مكة المكرمة باسم الله وطهر البيت من الأصنام المركومة التي كانت تعد بالمئات.. ولقد عزم صلى الله عليه وسلم على إصلاحات وتوسعات في الكعبة، لكنه امتنع عن ذلك بسبب قرب عهد القوم بالشرك وقال لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: بابا شرقيا وبابا غربيا، باب يدخلون منه وباب يخرجون منه، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة».. وإنما فعلت قريش ذلك بسبب قلة ذات اليد. فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن قومك قصرت بهم النفقة».. وفي العهد الراشدي حصلت توسعات على يدي عمر وعثمان – رضي الله عنهما - ثم تتابعت خدمة التوسعات في العهود الإسلامية حتى ولي آل سعود الولاية على الحرمين الشريفين.. وإذا استنطقنا حقائق الجغرافيا والعمران سمعناها تقول: حين انعقدت الولاية لآل سعود على الحرم المكي – مثلا – كانت سعته ثلاثين ألف متر مربع.. وفي العهد السعودي قفزت معدلات السعة إلى ثلاثمائة وستة وخمسين ألف متر مربع.

وبأمانة الاعتراف بالحقيقة، وبخلق الوفاء لمن وفى لحرم الله بالخدمة المتزايدة المتصاعدة - بتوفيق الله - بهذين الخلقين ينبغي الاعتراف الصدوق لآل سعود بهذه الخدمات الهائلة الجليلة للحرمين الشريفين، اعترافا مقترنا بالشكر الجم لهم، وهو شكر يعتبر نوعا من توحيد الله عز وجل، فقد ربط حديث نبوي صحيح بين شكر الناس وشكر الله: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».. فما من ملك سعودي ولي هذه الرسالة إلا جعلها في مقدمة أولوياته بإطلاق.. وأقرب ذلك – زمنيا وموضوعيا – كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى حجاج هذا العام. فقد جاء في هذه الكلمة: «منذ أن من الله على المملكة وشرفها بخدمة الحرمين الشريفين وهي تستشعر عظمة الأمانة، وتقدر حجم المسؤولية، وأهمية الاضطلاع بها بما يرضي الله عز وجل، محتسبة عند الله سبحانه وتعالى خدمة الحجاج والعمار والزوار لوجهه الكريم، ومن فيض فضله العظيم. ولقد يسر الله لنا بعونه وتوفيقه القيام بتيسير السبل للحجيج، والعمل على توفير راحتهم ورعايتهم، وتقديم جميع الخدمات لهم. ونحن بعون الله وتوفيقه ماضون في ذلك بما مكننا سبحانه من قدرة ومقدرة».

وعظمة هذا القول وصدقيته تتمثل في أنه ليس (مجرد كلام) يقال، بل هو قول يصدقه (الفعل) على أرض الواقع.. مثال ذلك أن هذا الرجل الكبير الوفي لمواريث الإسلام وميراث آبائه وأجداده قد انتقل بخدمة الحرمين الشريفين نقلة نوعية، تكاملت فيها قوة الشعور الديني مع دقة العمران الحضاري وروعته. فهناك - على سبيل المثال - نقلة التنظيم العمراني والتقني التي أنهت أزمات الزحام عند الجمرات.. وهناك التوسعة – غير المسبوقة – للمسعى.. وهناك النقلة الهندسية الحضارية في خدمة (زمزم) التي رصد لها سبعمائة مليون ريال من ماله الخاص، وهي خدمة لم تشهد زمزم لها نظيرا منذ تفجر نبعها المبارك قبل خمسة آلاف سنة، تروية لأبينا إسماعيل عليه السلام، وأمه الكريمة هاجر رضي الله عنها.. والخدمات التي قدمها العهد السعودي – في مختلف أحقابه – هي (خدمات متنوعة).. فثمة خدمة الحرص على حماية الحرمين مما يسيء إليهما معنويا بأي أسلوب كان.. والخدمة المتمثلة بالتوسعة والصياغة العمرانية.. وخدمة (أمن المناسك).. وخدمة (أمن الطريق) وتيسيره لكل حاج ومعتمر وزائر.. وخدمة (تهيئة المواقيت المكانية).. وخدمة ضبط (المواقيت الزمانية) عن طريق الإعلان عن موعد الحج والوقوف بعرفة، وهي من مهام والي الحج (كما يقول الماوردي).. إلخ.

وتحملا لكامل المسؤولية في خدمة الحرمين الشريفين، وعشقا لهذه الرسالة الجليلة، ويقينا بأدائها المستمر.. لأجل ذلك كله، غدت خدمة الحرمين الشريفين نصا دستوريا في النظام الأساسي للحكم؛ إذ نصت المادة (24) منه على أن «تقوم الدولة بإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما وتوفير الأمن والرعاية لقاصديهما، بما يمكن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة».

قد يختلف الناس مع النظام السعودي في هذه القضية أو تلك، أمس أو اليوم أو غدا.. هذا صحيح ومفهوم، بيد أنه من الصحيح أيضا أنه ينبغي أن ينعقد (إجماع المسلمين) على حقيقة عبادية أخلاقية عمرانية لا يجوز الاختلاف فيها وهي (نجاح) آل سعود وعراقتهم وصدقهم وتفانيهم في خدمة الحرمين الشريفين.. وهذا نموذج داني القطوف.. لقد نعم الحجاج وتمتعوا بحج ماتع مريح آمن.. فمن كان وراء ذلك – بعد عون الله وتوفيقه؟ كان وراءه رجال الأمن الطيبون الحارسون للأمن بالغدو والآصال.. وكان وراءه القوى المساندة لهم.. وكان وراءه – من قبل – الرجل المتبتل لربه بتأمين الحج والحجاج، وهو الأمير نايف بن عبد العزيز، النائب الثاني ووزير الداخلية السعودي، الذي أنابه العاهل السعودي – هذا العام – للإشراف على الحج كله.

وآل سعود.. ما لهم لا يتحملون هذه المسؤولية الشريفة وهم يعلمون:

أ) أن عظمة الخدمة تستمد من عظمة المخدوم. ولما كان ليس على كوكب الأرض مكان أعظم ولا أشرف من الحرمين الشريفين، فإنه ليس في هذا العالم خدمة أبر ولا أعظم ولا أرقى من خدمة الحرمين الشريفين.

ب) أن إعمار المساجد العادية دليل على صدق الإيمان: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..» الآية.. فكيف بصدق إيمان من يعمر (المسجد الإمام) وهو بيت الله الحرام وأخوه المسجد النبوي الشريف؟

ج) أن الله تعالى قد قال: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ».. والحيثيات شتى: حيثية المكان، وهم فيه ومنه ونباته وثمره وحراسه.. وحيثية الرسالة والرسول المجتبى، وهو قد ابتعث في هذه الأرض: رحمة للعالمين كافة.. وحيثية الولاية على الحرمين، وهم أهلها وحاملو لوائها.