تكرار مفزع

TT

عشية حرب 1975 كتبت الشاعرة اللبنانية بالفرنسية، أندريه شديد: «أرضهم الصغيرة مريضة جدا، لكن أحدا لا يريد الإقرار بذلك. وبريق الازدهار يغطي نوبات الحرارة والأزمات والخدر. التناقضات جزء من السحر. الأجانب والسياح يطربون بنشوة لدفء الاستقبال، في هذا الخليط من الطائفية والحرية، حيث كل شيء قابل للتفاوض، حيث يرد اسم الله تعالى في كل شجار وحادث ومصالحة».

يفزعني الشبه بين ما يقال ويكتب اليوم، وبين ما كان يكتب ويقال عشية حروب 1975، التي لم نتفق على تسمية لها حتى اليوم: «الحرب الأهلية» أم «حروب الآخرين» أم «حروب من أجل الآخرين» كما سماها غسان تويني؟ المقالات التي تكتب اليوم، ورسائل القراء في الصحف، التي تعبر عن اليأس والخوف وفقدان الأمل في السياسيين، ومظاهر العجرفة والفرقة، وتداعي الدولة وظهورها كأضعف القوى، هذا كله كان سائدا عشية 1975. كل مظاهر الغطرسة والجنون كانت سائدة وسائدا كان خوف الضعفاء وذهولهم وعجزهم إلا عن الشكوى والأنين وعدم إدراكهم لما يحدث ولماذا يحدث.

يومها قال ياسر عرفات: إن لبنان «ضرورة استراتيجية لعملنا. نحن ثورة، ونقاتل فوق أرضنا. لبنان أرض عربية وعليه أن يحمينا لا أن يقاتلنا». مع حلول 1982 لم يكن قد بقي من لبنان شيء كي يحمي الثورة الفلسطينية. غادر أبو عمار ميناء بيروت إلى أثينا وهو يرفع شارة النصر، بينما توزع مقاتلوه على السودان واليمن. وانصرف اللبنانيون إلى مقاتلة بعضهم البعض في ضراوة ووحشية، مسلمين فيما بينهم، ومسيحيين فيما بينهم، وجمعا ضد جمع.

عندما تعانقوا متصالحين كان قد سقط 200 ألف قتيل وهاجر بلا عودة مئات الألوف. وكان قلب بيروت قد تحول إلى ركام ممزق وجدران ومبانٍ معلقة مثل علامة استفهام: لماذا كانت الحرب؟ من أجل ماذا؟ ومن أجل من؟ ماذا حدث لشارة النصر التي رفعها أبو عمار وهو يغادر «خاصرة الثورة»؟ ماذا حدث لـ«جمهورية اليسار» التي رفعت أعلامها؟ ماذا حدث لـ«حرب التحرير» التي شنها ميشال عون ضد سورية؟ ماذا حدث لـ«حرب الجبل» التي شنها سمير جعجع؟

مفزعة ظواهر العنف اللفظي والكره والحقد التي تطفو اليوم على سطح لبنان. وأكثر ما يحزن هو رسائل الضعفاء ونداء الضعفاء وشكاوى اليائسين. أولئك الذين لا يريدون قتلا ولا موتا ولا تهجيرا ولا أصابع ترفع شارات النصر ثم ينتهي كل شيء من جديد إلى مصالحات فوق ركام المدينة والمقابر الجماعية.

عندما يكون لبنان هادئا وجميلا ورائعا، يطرح في العالم على أنه نموذج التعايش بين الأمم. وعندما يكون في الحال الذي هو عليه الآن يطرح كفزاعة على الأمم أن تحذر السقوط في مثل ما هو فيه.