وليام وكاثرين.. واستقرار الملكية

TT

المكان: شارع داوننغ، وكان، حتى عقدين، مفتوحا للمارة وليس فيه سوى رجل شرطة واحد أمام باب رقم 10، مقر رئيس وزراء المملكة المتحدة المكونة من بريطانيا الكبرى (أي الجزرة الكبيرة) وآيرلندا الشمالية والتوابع الإدارية (ويسميها البعض مغالطة «المستعمرات»، فهي تتمتع بالحكم الذاتي وترفض شعوبها – في كل استفتاء - الاستقلال عن التاج، معتبرة من ما حل باقتصاد وحريات ومصائر الشعوب على يد زعماء حركات التحرر كزيمبابوي – روديسيا الجنوبية سابقا – على سبيل المثال لا الحصر)، أقيمت بوابات فولاذ، منع المرور فيه بعد هجوم إرهابي على المقر من منظمة IRA من الحركة الجمهورية الآيرلندية (وإن كانت المنظمة قد تميزت على الأقل بشجاعة القتال بشرف بالتحذير مسبقا قبل موعد التفجير بوقت يسمح بإخلاء المكان فالهدف إلحاق الخسائر الاقتصادية ولفت أنظار الصحافة، بعكس عصابات «القاعدة» وشاكلتها من لصوص رايات الإسلام الذين لا هدف سياسيا واضحا لديهم، فيباغتون الأبرياء بلا تحذير مسبق بغاية قتل أكبر عدد ممكن من الذين لا يشاركونهم أيديولوجية تدعو للغثيان بدءا بقنابلهم في دور سينما ومسارح القاهرة، ووصولا إلى كنائس العرق، مرورا بإيذاء شعوب السعودية والمغرب والأردن ولبنان وإندونيسيا وباكستان والهند وتركيا).

الزمان: صباح الثلاثاء 16 نوفمبر (تشرين الثاني).

رئيس الحكومة ديفيد كاميرون يقطع الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء ليخرج مواجها الكاميرات والصحافيين (ممثلي السلطة الرابعة التي لا حياة للديمقراطية في غيابها المعسكرين 24 ساعة أمام مدخل مقر الحكومة)، مبتسما، على الرغم من الوضع الاقتصادي الذي مسح الابتسامة من وجوه أغلبية البريطانيين.

كاميرون يهنئ الأمة بخبر سعيد، هو إعلان قصر باكنغهام، أي الدولة حيث رفرفت الراية الملكية Royal Standard (وهو إعلان وجود جلالة الملكة في القصر، فالراية تصاحب التاج لأي مكان) في الحضرة الملكية، بلافتة على بوابة القصر، حسب تقاليد قرون طويلة، ويتبعها صوت المنادي حامل الجرس بزيه التقليدي منذ القرن السابع عشر بإعلان نبأ خطوبة الأمير وليام، حفيد الملكة والابن الأكبر لولي العهد الأمير تشارلز، على المدموزيل (أو ميس Miss بالإنجليزية) كيت ميدلتون، وأن الزواج سيكون في ربيع أو مطلع صيف العام المقبل.

وعلى الرغم من خطورة الوضع الاقتصادي، وتعرض الجيش البريطاني للخسائر اليومية في حربه ضد الإرهاب في أفغانستان، ومناقشة مجلس الوزراء لمظاهرات الطلاب العنيفة، قطعت كل المحطات كلمة رئيس الوزراء قبل إكمالها، وانتقل الإرسال إلى الكاميرات في الركن الجنوب شرقي من حديقة غرين بارك المواجهة لقصر باكنغهام لنقل رد فعل الجماهير، وأغلبهم من السائحين أو باعة العصير وبالونات الأطفال.

وقسم بعض محرري النشرات الشاشة نصفين، واحدا من الجماهير والآخر من داخل قصر باكنغهام حيث تم استدعاء مراسلي الشؤون الملكية قبلها بساعة، فاحتاط ديسك الأخبار بنصب الكاميرات؛ لأن آخر مرة كان فيها مؤتمر صحافي في القصر الملكي كان إعلان خطبة الأمير إدوارد قبل 18 عاما؛ إذ تمر أجيال بين مؤتمرين وإن كان نقل المعلومات Briefing يتم بهدوء بلا رسميات عشية زيارات دولة رسمية لرؤساء دول أخرى.

في اجتماعنا الصباحي اليومي مع مستشاري رقم 10 داوننغ ستريت دار النقاش فقط حول خطوبة الأمير وليام، وهو رقم اثنين في طابور الجلوس على العرش (بعد عمر طويل، أطال الله في عمر الملكة وأدام لها وافر الصحة) بعد والده الأمير تشارلز، وما إذا كان هناك تدخل من الحكومة لحث الأمير وليام على التقدم لطلب يد صديقته لعشر سنوات، والتي يجب أن نعتاد تسميتها «كاثرين» من اليوم؛ فاسم التصغير للتدليل «كيت» لا يليق بملكة المستقبل – بعد عمر طويل.

جاء السؤال من الزملاء من الصحف اليسارية، المؤمنين بنظرية المؤامرة، فالخبر السعيد سيصرف أنظار الشعب عن سوء الوضع الاقتصادي وميزانية الحكومة بإنقاص الإنفاق، التي بسببها مثل رئيس الوزراء أمام لجنة تحقيق برلمانية استجوبته لساعتين ونصف الساعة أول من أمس، الخميس، ولم يتابع معظم المشاهدين جلستها على محطتي «سكاي» و«بي بي سي» البرلمانيتين؛ إذ ظلوا مع الشبكات المتابعة لأخبار وليام وكاثرين وموعد الزفاف مع مراسلين «يزنون» على أسماع موظفي مكتب المراسم الملكية لمعرفة موعد الزفاف.

إفراد الصحف لغالبية صفحاتها والإذاعات لـ80% من وقت البث، لخطوبة الأمير وليام كان بمثابة الاستفتاء الأكثر دقة وتعبيرا عن مزاج الشعب، بتفضيله للنظام الملكي وحبه للملكة وأسرتها، خاصة الأمير تشارلز وولديه؛ وليمت الجمهوريون بغيظ خيبة أملهم.

الصحافة البريطانية حرة تماما بالمفهوم الاقتصادي لحرية السوق، أي أنها مملوكة لحملة الأسهم فتخضع لحسابات الربح والخسارة. الخبر الملكي يترجم إلى مضاعفة النسخ المطبوعة والتوزيع، والتصويت هنا بدفع القراء ثمن الصحف (ما بين ما يساوي دولارا وخمسة). والمحرر لا يجامل رئيسا وضعته الدبابات على كرسي الحكم، أو زعيم حزب يمول الصحيفة. الصحافي خادم لقارئ دفع مرتبه، كتصويت بتفضيل شعب أقدم الديمقراطيات وأعرقها للنظام الملكي.

أقوى وأغنى وأكبر نظم العالم الجمهورية، الولايات المتحدة، ألغت معظم إذاعاتها برامجها لمتابعة خطوبة وليام وكاثرين ولعل ضمير الأمة الأميركية، وجارتها كندا، التي تخضع لتاج الكومنولث البريطاني، يقول سرا: «ما لنا والاستقلال عن لندن؟ أليس وجود رأس للدولة، في حكمة الملكة إليزابيث الثانية، أفضل من أوباما وبوش وكلينتون وتصريحاتهم الاستفزازية وفضائحهم وحروبهم التي تثير الضغائن ضدنا؟».

وسر استقرار النظم الملكية هو استمرارية التقاليد.

فالأمير وليام، الطيار في السلاح الجوي والملكي، اتبع التقاليد. طلب يد كاثرين (28 عاما) من أبيها أولا، بعد مباركة والده واستئذان الملكة التي نصحته بتأجيل إعلان الخطوبة إلى ما بعد الأحد 14 نوفمبر (التالي لذكرى شهداء 11 نوفمبر؛ حيث تضع الملكة إكليل الزهور الحمراء poppies على النصب التذكاري للشهداء). الطيار الوسيم، اتبع نصيحة أكثر نساء العالم حكمة ومحبة لدى شعوب الكومنولث، وأكثرهن خبرة في شؤون السياسة.

سر قوة الأمم العظيمة، احتفاظها بالتقاليد، ومحافظتها على تاريخها لا تزييفه (تمثال أوليفر كرومويل، الذي قطع رأس الملك تشارلز الأول عام 1649 أثناء الحرب الأهلية، لا يزال منتصبا أمام البرلمان ولم يزله ابنه تشارلز الثاني بعد استدعاء الشعب له لاستئناف النظام الملكي عام 1660) فالتاريخ، ومن صنعوه، من ممتلكات الأمة وليس الحاكم.

فليحفظ الله النظام الملكي، وليقِ أمم العالم شر الانقلابات العسكرية وحركات التحرير التي تتوج انتصارها بتحويل ثروات الشعوب لحسابات زعماء (لم ينتخبهم أحد) في بنوك سويسرا.

ومبروك لوليام وكاثرين.