أن تكون في البحرين!

TT

أخيرا أتيح لي أن أزور البحرين وأرى بأم عيني الإنجازات الثقافية التي تحققت في ظل الشيخة مي آل خليفة. كنت أسمع عن ذلك من بعيد من دون أن أدرك حقيقة الأمر جيدا. ينبغي أن ترى لكي تفهم. ما إن تصل إلى مركز جدها الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة حتى تشعر بأنك أصبحت ضيفا على العرب كلهم وليس فقط على البحرين. أنت في بيتك هنا. يكفي أن تنظر إلى أعلى، إلى ما فوق رأسك وأنت في المدخل الكبير، لكي ترى صور كبار المبدعين العرب مصفوفة إلى جانب بعضها كالإطار الذي يحيط بالسقف. إنها منقوشة هناك كمنارات عالية تفتخر بها البحرين لأنها تحب الثقافة والمثقفين. البحرين لا تحتفل فقط بمثقفي البحرين وإنما بمثقفي الأمة العربية كلها. هنا لا يوجد ذلك الشعار السخيف الذي يقول: البحرين أولا! هنا البحرين جزء لا يتجزأ من العرب، والعرب ما هم إلا امتداد طبيعي للبحرين.

أجمل شيء هو أن تزور بيت الشعر برفقة شاعر كبير. لقد تفضل عليَّ قاسم حداد واصطحبني معه من الفندق إلى هناك؛ حيث تحل ضيفا على شاعر البحرين الكلاسيكي المشهور إبراهيم العريض. وتفاجئك منذ المدخل صوره مع كبار شخصيات العرب من شعراء وسواهم. وتلفت انتباهك حتما تلك الصورة الرائعة لبدر شاكر السياب وهو يبدو كطفل تقريبا بينهم. وعبرت عن دهشتي وفرحتي فوافق قاسم حداد، وقال: نعم إنها نادرة. هل قلت له إن الفرنسيين يحتفلون اليوم بالعثور على صورة جديدة لرامبو، وإنها تباع بمائة وخمسين ألف دولار على الأقل؟ لا أعرف. ربما نسيت. ولكن صورة السياب أهم منها بالنسبة لنا نحن العرب؛ لأنها أكثر وضوحا، وأكاد أقول أكثر سذاجة وبراءة.

هناك كنز إذن في بيت الشعر الذي أسسته مي آل خليفة وتركت عليه بصماتها ولمساتها الجميلة المحببة. ولكنه ليس الوحيد. ينبغي أن تقرأوا الرسائل المكتوبة بخط اليد والمرسلة إلى إبراهيم العريض من قبل كبار الشخصيات والمنقوشة على الجدار. إنها أهم من أجمل اللوحات الفنية. لفت انتباهي الخط الأنيق لنزار قباني، وكذلك الخط الجميل المتناسق لنازك الملائكة.. إلخ. ليتني توقفت أكثر لكي أقرأ الرسائل كلها وأتمعن فيها مليا. فالشعراء الكبار يفضحهم خطهم أيضا: أقصد يكشف عن شخصياتهم.. ولكن هل يمكن لخط نزار قباني أن يكون إلا أنيقا؟

وعلى ذكر نزار قباني لا بد من الإشادة هنا بأزميرالدا قباني التي تعتبر الذراع اليمنى لوزيرة الثقافة. لقد فضحت نفسي بنفسي عندما فوجئت باسمها فقالت لي إنه وارد في رواية فيكتور هيغو «أحدب نوتردام». وأسقط في يدي ولم أعد أستطيع التراجع. فقد عشت خمسا وثلاثين سنة في فرنسا دون أن أقرأ هذه الرواية، أنا الذي يزعم بأنه قرأ كل شيء وفهم كل شيء! فندت عنها ضحكة صغيرة تهكمية أستحقها فعلا. ثم فهمت فيما بعد شيئا لم أكن أعرفه، هو أن البحرين كانت منذ أكثر من قرن رئة الحرية والثقافة والانفتاح في منطقة الخليج العربي، تماما كلبنان وبيروت بالنسبة للمشرق. وبالتالي فاهتماماتها الثقافية والحضارية عريقة. وهل يمكن فصل الثقافة عن السياسة؟ هل يمكن أن توجد سياسة كبيرة وحضارية من دون ثقافة حية، مستنيرة، تحتضنها أو ترافقها؟

ضمن هذا المعنى نفهم تلك الحركة الجميلة لملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة عندما منح قطعة أرض شخصية لإقامة متحف للشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي. وعندئذ يمكن لغازي أن يطل على كلا البلدين والوطنين وينام قرير العينين. لن أتوقف هنا عند متحف البحرين الكبير الجميل الذي يشرح الصدر من شدة اتساعه وترحابه بك، ولا عند بقية الإنجازات الأخرى، وإنما سأكتفي بقول ما يلي: في إحدى المقابلات التي أجريت مع الشيخة مي طُرح عليها هذا السؤال: ما النابض المحرك لكل أعمالك ونشاطاتك الثقافية الهائلة؟ فأجابت: الحب. هل هناك جواب أروع من هذا الجواب؟ هل يمكن أن ينجح أي مشروع في العالم من دون حب؟ كل الإنجازات العظيمة التي تحققت في التاريخ كان الحب وراءها. وأكاد أقول الحب بالمعنى الضيق والواسع للكلمة. فقليلا من الحب أيها السادة في عالم مليء بالنزاعات والأحقاد من كل صنف ونوع. قليلا من الإيمان والصبر.

وأخيرا فلا أعرف لماذا تذكرت قصيدة ذي الرمة الشهيرة عندما رأيت الشيخة مي لأول مرة:

ما بال عينك منها الدمع ينسكب

كأنه من كلى مفرية سرب

ديار مية إذ مي تساعفنا

ولا يرى مثلها عجم ولا عرب

وبالفعل فلا مثيل لمي آل خليفة بين العرب حاليا.