باراك أوباما والجراد

TT

بعد أسابيع قليلة يتخطى باراك أوباما رئيس الجمهورية الأميركية خط المنتصف في ولايته لأربع سنوات، وهي الفترة الزمنية التي فوضه فيها الجمهور الأميركي للحكم قبل سنتين، وهي الفترة النصفية الحرجة لأي رئيس جمهورية أميركي. نتائج الانتخابات والجولة على الدول الآسيوية الصاعدة اقتصاديا جلبت كثيرا من التعليقات. العرب اهتموا - في الغالب - بتوقع أفول قدرة أوباما السياسية وخفوت بريقه السياسي، خاصة في ما يخص قدرته على إيجاد مسار معقول للقضية الفلسطينية، هكذا قرأ معظم المعلقين العرب التغيرات في الانتخابات النصفية، وكادت تصبح تلك القراءة موضة. إلا أن معطيات أخرى ترى العكس.

من اللافت أن وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض حدث تاريخي، ربما لن يتكرر في المستقبل المنظور. صعود أوباما نفسه قبل سنتين كان صعودا مفاجئا، دلل على تغير عميق في المزاج الأميركي، لعدد من الأسباب؛ أولها الأوضاع الاقتصادية المتردية، وليس آخرها سياسات جورج بوش الابن في الحروب المتعددة في آن واحد، التي لم يكن لانتهائها أفق تحت أي قيادة جمهورية يمكن أن تتسلم السلطة بعده.

هكذا حملت التيارات الأميركية المختلفة؛ الشابة والقوى الساخطة والقلقة من شرائح متعددة في المجتمع الأميركي، حملت باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض، على خلفية كثير من الآمال والتوقعات، مع تجاوز العقبة التاريخية، وهي أن يصل شخص أسود من آخر صفوف النخبة، ليصبح سيدا للبيت الأبيض وقائدا عاما لأقوى جيش في العالم الحديث.

المفارقة الأخرى التي لم يحسب لها حساب حقيقي في العالم الثالث، والعرب من بينهم، كون من يقطن البيت الأبيض اليوم، ولأول مرة في تاريخ هذا البلد الكبير والمهم، رجلا يعرف العالم الثالث حق المعرفة، ليس من باب التقارير والملخصات؛ بل من معايشة في العمق، تعرف على تفاصيلها صبيا وعايشها يافعا.

بعودتي إلى قراءة متأنية لكتاب أوباما المهم، أو «باري» كما يسمي نفسه فيه والمعنون «تراث أبي»، يتبين لنا أن الرجل الذي ولد لأم بيضاء ووالد أسود، غريب حتى عن التراث الأميركي الزنجي السائد. كان يعاني في طفولته أزمة تشتت الانتماء إلى عالمين، عالم أبيه الكيني، وبعد ذلك عالم زوج والدته الثاني الإندونيسي، وعالم جده وجدته لأمه الأميركيين. هذا العالم المنقسم بين أبيض وأسود، أفريقي وأميركي، شكل عمق الرجل الذي شق طريقه ليصبح ثالث رجل أسود في تاريخ الولايات المتحدة يصل إلى مجلس الشيوخ، وأول رئيس لبلاد لم تغادر ثقافتها ما بنيت عليه من تراث يحمل تحيزا عرقيا حتى سنوات قليلة خلت ضد الملونين.

من المفارقات أيضا أن الآباء المؤسسين، أو من يطلق عليهم آباء الدستور الأميركي، كانوا يناقشون، أثناء صراعات وضع الدستور الأميركي، في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، هل ينبغي - في توزيع نسب ممثلي الولايات في الكونغرس - اعتبار الأميركيين المستعبدين بشرا يحصل مالكوهم بسببهم على مزيد من الممثلين؟ وماذا عن توزيع العبء الضريبي بين الولايات؛ هل ينبغي أن يُعد العبيد فيه بشرا؟ وحسم الجدال في النهاية، فليحسب كل عبد بثلاثة أخماس رجل حر واحد!

هذه الخلفية لم تغادر الثقافة الأميركية، على الرغم من مرور كل هذا الماء تحت جسر تاريخ الولايات المتحدة، وجيلنا تابع الصراع الدامي، في ستينات القرن الماضي، حتى أصبح السود - قانونيا - على الأقل، مساوين للبيض في تلك البلاد. النظرة السلبية إلى السود في الولايات المتحدة التي تجذرت تاريخيا، صاحبتها نظرة مشابهة إلى تقديس الملكية الفردية والنظام الاقتصادي الحر، كلاهما اليوم شعارات تستفز الرأي العام ضد باراك أوباما، إن لم يستطع أحد أن يقول علنا إنه أسود لذلك يعارضه، يقال بصوت عال إنه «اشتراكي»، وهي سُبّة في ثوب تحيز اقتصادي.

عودة إلى حياة الرجل الأولى التي عرفته على الآخر بعمق، وكما قرر في الكتاب سالف الذكر، لقد أكل السحالي ولحم الكلاب وأكل الجراد مقرمشا - كما كنا نفعل في الخليج، أقصد الجراد وليس السحالي! -تعرّف على المتسولين في شوارع مدن إندونيسيا وعلى مرضى الجذام، وبشر القاع في العالم الثالث، كما شهد ديانة واحدة تحتوي على معظم شعائر الديانات المختلفة. يذكر والده كخيال تاريخي، وليس رجلا من لحم ودم، إلى درجة أنه رسم صورة له في خياله أقنع بها زملاءه في المدرسة بأنه بطل، فنسب له ما لم يكن فيه. ولكنه في ذلك السرد يتعرض للقضايا العامة، من خلال قصة حياته الأولى ونشأته وما تركته فيه من أثر.

من أهم الآثار شعوره القوي بغياب العدالة، في ما مر به من تجارب، لذا فإن التعصب صفة مذمومة لديه، إلى درجة الكره، سواء التعصب ضد لون البشرة، أو التعصب ضد اعتقاد الآخر، أو التراتب الهرمي في المجتمع. كما يتحدث عن «القوانين غير المعلنة» وهي منتشرة في المجتمعات، فتظهر قوانين تؤكد المساواة، وقوانين غير معلنة متعارف عليها بين الناس المتماثلين تعاكسها.

أحد الدروس القوية التي ظهرت لي أثناء قراءة الكتاب قول أوباما: «من الأفضل أن تكون قويا، وإذا لم تستطع أن تكون قويا كن ذكيا.. وتحالف مع شخص قوي..». هذه المقولة تعطينا فرصة للنظر داخل نفسية الرجل قاطن البيت الأبيض اليوم. والدته التي لا يتحدث عنها كثيرا، شاهدها كطفل كيف تتبع أزواجها مطيعة لهم، وهي الأميركية! يحدثنا بصراحة عن «الوجه القبيح للأميركي»، في إشارة غاضبة لما عرف على نطاق واسع بأن الولايات المتحدة تدخلت لتحقيق انقلاب أبيض في وسط ستينات القرن الماضي، على أحمد سوكارنو في إندونيسيا بعد انتشار نفوذ الشيوعيين، وكيف أتاح ذلك لنشوء «السلطة الظالمة» كما سماها، وانتشار الرشى التي «يدفعها رجال النفط الأميركيون للفاسدين من رجال الحكومة الإندونيسية» يقول: «لقد علمني ذلك أن أحتقر المزيد من الجهل والغرور الذي كان في أغلب الأحيان صفة للأميركيين في الخارج».

سقت ما سبق كي أصل إلى القول إنه لن يوجد رئيس أميركي يتفهم قضايا العالم الثالث كما يتفهما باراك أوباما. صحيح أنه انتخب في ظروف مضطربة مرت بها الولايات المتحدة، لو لم تكن تلك الظروف، لما وصل إلى البيت الأبيض، وصحيح أيضا أن آراء شاب - لم يتبين بعد مستقبله الحقيقي - عند كتابة الكتاب ذاك مختلفة عن شخص في قمة السلطة، وصحيح أن الضغوط والمصالح الكبرى تغير من الآراء والمواقف، كما أن الدول لها أجندات تختلف عن الأفراد مهما بلغوا من الشفافية.. كل ذلك صحيح، إلا أن الصحيح أيضا أن شرح الظلم الذي يقع على الشعب الفلسطيني يصير سهلا مع رجل بخلفية الرئيس أوباما. فخلفيته التي تعرف ماذا يعني الظلم، وماذا يعني العالم الثالث، سهلت لنا نصف المسافة، بقي النصف الثاني الذي علينا أن نقطعه. ففي توازن القوى السائد بين العرب وإسرائيل الذي يميل إلى كفة إسرائيل، نحصل على ثقل معنوي لا يقدر بثمن، وتاريخي بمعنى من المعاني، يجب عدم إهماله أو التقليل منه، وهو وجود باراك حسين أوباما بخلفيته تلك في البيت الأبيض. هذه الفرصة التاريخية يجب أن لا تضيع في خضم مزايدات سياسية يعلم مطلقوها أن آثارها لا تتعدى مسامع مستمعيهم.