جنرالات كثر ولا جنرالية

TT

لأن الحرب تتعلق بالحياة والموت، لذلك أفكر فيها كمبحث من مباحث الفلسفة، وليس كمستودع للعلوم العسكرية التي لم أدرسها أو أفكر في دراستها أصلا شأني شأن هؤلاء الذين يفقدون حياتهم وحياة أحبائهم فيها. ولست أقصد بكلمة الفلسفة هنا حب الحكمة كما علمونا في الصغر، بل بوصفها الرغبة القوية في الوصول إلى التفكير الصحيح الذي يحقق الخير الأسمى للناس. لست فيلسوفا إذن، ولا أعتقد أن أحدا من حقه أن يطلق على نفسه هذا الوصف. دعني أطرح عليك عدة مقولات عن الحرب، قيل إنها «أخطر من أن تترك للجنرالات وحدهم»، وإنها «الاختيار النهائي عندما يكون هو الخيار الوحيد»، وإن «الحرب هي مواصلة للسياسة بطرق أخرى»، وإن «الجنرال مسؤول عن أرواح جنوده». أما أهم ما قيل فيها وعنها فهو تعريف «كلاوتزفتز» لها، وهو أبو الاستراتيجية كما تعرف «الحرب هي تدمير جيوش العدو ومعداته من أجل فرض شروط السلام عليه». الجنرالية إذن ليست فقط فن قيادة الجيوش في ميدان القتال، بل هي أشمل وأبعد من ذلك بكثير، وإلا ما كان خطر هناك من تركها للجنرالات وحدهم. الجنرالية إذن هي القدرة على التفكير الصحيح في الحرب والسلام الذي هو الهدف منها. هي المسؤولية الفلسفية والفكرية والسياسية والعسكرية عن حياة البشر وأمنهم وسلامتهم. وعندما تقرأ كتاب كلاوتزفتز الشهير «الاستراتيجي» ستكتشف شيئا غريبا، فهو يكرر تعريفه للحرب كل خمس صفحات تقريبا، وكأنه على يقين من خلال خبرته العسكرية الطويلة أن الجنرالات وسط غبار المعارك وبارود المدافع من الممكن أن ينسوا الهدف منها.

بالنسبة لي، أنا أرى أن أهم ما يجب أن يفكر فيه الجنرال هو أنه «مسؤول عن أرواح جنوده».. الانتصار في المعركة واجب، وفي الحرب واجب، بل هو أكثر واجباته قداسة، غير أن الأكثر وجوبا وقداسة هو مسؤوليته عن أرواح جنوده. عندما غزت قوات نابليون مصر في نهاية القرن الثامن عشر بقيادة بونابرت، كان من بين مساعديه جنرال آخر يكبره في السن وفي خبرة القتال بنحو عشرين عاما، وهو الجنرال كليبر، الذي كان يسخر منه قائلا «نعم.. هو أعظم جنرال في التاريخ، بشرط أن تمده بعشرة آلاف جندي كل صباح».. هذه هي مشكلة الجنرالات النجوم، نجوم التاريخ ونجوم الحرب.

أن يموت الجنود في الحرب وهم في سن الشباب، ليس أمرا طبيعيا فقط، بل هو واجب، بل لعله أكثر واجبات الفرد شرعية، وذلك عندما تتحول حياة الفرد ذاتها إلى ضريبة يدفعها عن طيب خاطر، بل وبكل حماسة، دفاعا عن بلده وأهله وجماعته، من أجل الانتصار الذي من المحتم أن يأتي لهم جميعا بالسلام طبقا للتعريف.

لكن ما هي شرعية الموت - إذا صح التعبير - عندما يموت البشر في حروب لا توجد فيها للعدو جيوش أو معدات قابلة للتدمير؟ أضف إلى ذلك أنه لا توجد تشكيلات أو مؤسسات لهذا العدو يمكن فرض شروط السلام عليها. والحال هكذا، ما هي حدود مسؤولية الجنرال عن أرواح جنوده في الوقت الذي يعرف فيه أنه لا توجد على الأرض طريقة لفرض شروط السلام على العدو، وهو بالضبط ما يحدث في أفغانستان؟ ألا نكون بذلك قريبين من فكرة أن العمليات العسكرية الدائرة الآن هناك ليست لها صلة بالحرب يعرفها البشر؟ وبالتالي فمن المستحيل وجود انتصارات أو هزائم حاسمة في تلك الأصقاع، بين بشر يجيدون القتال ويلتزمون بقواعده التي تعلموها في الأكاديميات، وبشر يجيدون القتل الذي تدربوا عليه منذ طفولتهم كوسيلة وحيدة أو اختيار نهائي ووحيد للبقاء على قيد الحياة.

لست أتكلم عن شرعية الحرب، أتكلم عنها من الناحية الفنية، أتكلم عنها بوصفها الخيار الوحيد لفرض شروط السلام على العدو، فهل كان غزو أفغانستان الخيار النهائي الوحيد أمام رجال السياسة والجنرالات في أميركا والغرب؟ أم أن حادث 11 سبتمبر (أيلول) الذي لا أجد وصفا لبشاعته هو المسؤول عن حالة الغضب الجمعية التي أعمت أعين الناس هناك عن كل الخيارات الأخرى التي لا أزعم بالطبع أنني أعرفها، كل ما أعرفه أن الحرب لا تقوم لأسباب غضبية؟

أما في العراق، فأعترف بأنني كنت أحد المؤيدين بشدة لإزالة صدام حسين ونظامه، أما الأمر الذي لم أفهمه حتى الآن فهو: لماذا غزو البلاد.. لماذا الاحتلال في عصر لم يعد الاحتلال أحد عناصره أو سماته؟ إن فهم حقائق التاريخ في المنطقة كان يحتم بعد تدمير قوات صدام حسين، أن تتوقف الجيوش المهاجمة بعيدا في انتظار ما سينتج عن صراعات الحكم أو القصر، التي ستنتهي حتما بشخص واحد يمسك بمقاليد الأمور بعد القضاء على منافسيه، هذا هو الشخص الذي ستفرض عليه شروط السلام ثم تنسحب على الفور.

ويبدو أن أحدا من الجنرالات لم يفكر في هذا الخيار، ربما بدافع من النفاق السياسي الذي شاع وقتها والذي تركز في حكاية «تحقيق الديمقراطية للعراقيين». وفي زيارة سريعة لأميركا قبل غزو العراق بشهور، شعرت بالانزعاج من مقولة يروج لها عدد من المثقفين القريبين من دائرة صنع القرار، وهي أنهم ذاهبون إلى العراق لجلب الديمقراطية للعراقيين، وأن العراقيين سيقابلونهم حتما بالورود، وفي مدينة لانس داون في مؤتمر لمعهد واشنطن قلت لهم بكل ما أملك من تهذيب «تاريخيا، لم يحدث أن ذهب الجنرالات إلى ميدان القتال ليأتوا بالديمقراطية لشعب آخر. هم يذهبون إلى الحرب فقط ليدافعوا عن بلادهم. ربما تكون الديمقراطية منتجا جانبيا للحرب (By product)، غير أنها من المستحيل أن تكون هدفا لها. في المسرح وفي الحرب من المستحيل أن تضلل نفسك بمقدمة خاطئة».

نأتي الآن لأكبر خطأ تاريخي في فهم عناصر الحكم في التاريخ، قام السيد بريمر، الذي عين حاكما أو شيئا من هذا القبيل للعراق، بإلغاء حزب البعث والجيش بجرة قلم، بالإضافة إلى أنه استعان بعناصر معارضة النظام الذين كانوا يعيشون في الخارج، هذا هو بالضبط ما حذر منه ميكيافيلي من قبل، أن يستعين الأمير الجديد برجال معارضة النظام القديم، وأكد على أن الأمير الجديد عليه أن يستعين بكل أعوان النظام القديم، وكانت وجهة نظره هي أن معارضي النظام السابق، مهما أعطيتهم، فسيشعرون بأنهم نالوا أقل مما يستحقون، ومن ثم يصبحون مصدرا للمتاعب، أما أتباع النظام فسيخلصون لك نفس إخلاصهم للنظام السابق، خاصة بعد أن أحسنت إليهم بالإبقاء عليهم.. بريمر لم يقرأ ميكيافيلي وأرسلوه ليحكم العراق.. عجبي.