العراق: ما بعد صفقة الشراكة

TT

قلنا في مقالة سابقة حول الدور الأميركي في العراق إن الولايات المتحدة تريد صفقة يشارك فيها الأقوياء من الشيعة والسنة والأكراد، ولا تنتهي إلى إقصاء أي طرف من الأطراف الرئيسية، والصفقة التي رأيناها مؤخرا تمثل تطبيقا لهذا المنطق. فجميع الأطراف حصلت على جزء مما تريد، وبشكل حافظ على استمرارية النظام السياسي الجديد الذي كان يهدده فشل الوصول إلى اتفاق شامل، وبشكل استوعب في الوقت نفسه المتغير الأساسي الذي شهدته العملية السياسية بعد الانتخابات الأخيرة، وأعني به ظهور كتلة كبيرة تحتوي التمثيل السني بغالبيته، وتمثل مطالب الأطراف الاجتماعية والسياسية التي اعتبرت نفسها متضررة من الوضع الجديد، ومهمشة داخل النظام الذي تشكل بعد 2003.

بطبيعة الحال لم تكن الصفقة بسهولة تلك التي حصلت بعد الانتخابات السابقة التي شهدت إما مقاطعة سنية أو مشاركة جزئية، وهذه المرة دخلت القوى السنية الرئيسية في قائمة موحدة جذبت إليها القوى الليبرالية، وشهدت المحافظات ذات الغالبية السنية أعلى معدلات المشاركة في الانتخابات، وظهرت كتلة «العراقية» بصفتها لاعبا رئيسيا جديدا يعبر عن تطلعات قسم مهم ظل تمثيله محدودا في السابق، وكان موقفه غير محسوم بسبب قوة التيارات الرافضة للعملية السياسية، وتردد الكثير منها في دخول المعترك الانتخابي وقبول قواعد اللعبة السياسية الجديدة. لذلك كانت المفاوضات هذه المرة شاقة وطويلة، لأنها شهدت وجود شريك جديد بقاعدة تصويتية كبيرة ومطالب تتحدى الكثير من مقولات ومسلمات المرحلة السابقة، كما أن الاستقطاب الإقليمي الحاد انعكس على تلك المفاوضات بإدخال إرادات ومطالب خارج إطار الصراع السياسي الداخلي الذي جرى بقوة حول السيطرة على أكبر قدر من قوة القرار وتشكيل مستقبل الدولة العراقية.

المشكلة كانت تكمن بين موقفين متطرفين، أحدهما لدى بعض القادمين الجدد «بقوة»، والآخر لدى بعض اللاعبين التقليديين، الموقف الأول أراد «تغييرا جذريا» وراهن على إمكانية قلب الكثير من قواعد المعادلة بما يتجاوز حجم ما توفر له من قوة تصويتية وسياسية، والثاني راهن على إبقاء المعادلة بذات تفاصيلها وشعاراتها وحساباتها التي شهدناها في السنوات السابقة غير مدرك أن هناك مطالب جديدة وقوى جديدة وحسابات جديدة. والصفقة كما حدثت همشت الموقفين المتطرفين من حيث إنها لم تشكل انقلابا جذريا، ولا هي مثلت تكرارا للنسخة القديمة. النجاح الكبير لهذه الصفقة هو في حصولها، لأن بديلها كان المجهول المحمل بالكثير من التهديدات والصراعات، بما فيها احتمال نهاية العملية الديمقراطية وظهور صراع أهلي جديد.

ولكن ماذا بعد الصفقة؟ أولا: يجب أن نتذكر أن الموقفين المتطرفين اللذين خسرا فيها سيحاولان البحث عن وسائل بديلة للمرور، بما فيها وسائل غير قانونية ولا دستورية، لأن القوى الخاسرة وصاحبة الرهانات الكبيرة قد تلجأ أحيانا إلى مغامرات غير محسوبة أو سلوكيات رد فعل عاطفية، والبعض قد يميل إلى لوم الآخرين بدلا من لوم نفسه، لأنه سيكون في مواجهة جمهوره الذي قدم له وعودا مبالغا فيها ورفع من سقف توقعاته فوق حدود الممكن. ثانيا: هذه الصفقة يمكن أن تتحول إلى مرتكز لتحول إيجابي واستقرار سياسي، كما يمكن أن تفرز وضعا غير مستقر وحكومة منقسمة وبرلمانا مشلولا ودولة عاجزة.

إننا أمام وضع تتقاسم فيه جميع القوى السلطة وتشارك في صناعة القرار، وهنالك إمكانية لظهور مؤسسة جديدة لتوفر تواصل بين زعماء الكتل وكبار المسؤولين، وبالتالي تحمل متنفسا لمعالجة مصادر عدم الثقة والوصول إلى تسويات. أي أن الصفقة الجديدة تنطوي على إمكانية بناء الثقة التي بات واضحا أن غيابها يؤدي غالبا إلى هيمنة الاتهامات المتبادلة وخطاب التصعيد. الذين يسعون للتغيير يمكنهم أن يحصلوا على بعضه عبر المعقولية والبراغماتية والمنطق الهادئ وقبول الاختلاف، والذين يسعون إلى الحفاظ على النظام القائم لا بد أن يستوعبوا قواه الجديدة ومتطلباته المتغيرة والحاجة لإجراء تغييرات هدفها إكسابه الحيوية والاستمرارية.

ميزة النظام الديمقراطي هي في قدرته على التعبير عن الاستمرارية والتغيير في آن واحد، فهو يوفر الآليات المستقرة والمؤسسات الراسخة في الوقت الذي يقدم إمكانية للتغيير واستيعاب الاحتياجات الجديدة وتعديل المواقف القديمة. للديمقراطية نوعان رئيسيان من الخصوم، الأول: هم أولئك الذين يسعون إلى تغييرات جذرية وانقلابية بما ينطوي عليه ذلك من ارتداد عن المنطق الديمقراطي، والثاني: هم أولئك الذين يقاومون التغيير الذي تتطلبه ويحاولون أن يفرضوا عليها الجمود، وبالتالي يخلقون انسدادا سياسيا واجتماعيا يعارض المبدأ الأساسي للفكرة الديمقراطية، أي تمثيل المصالح الاجتماعية العامة. إن مرحلة ما بعد الصفقة هي مرحلة الصراع مع هذين الخصمين.