هذا الحاضر هذا الموجود

TT

توجد في وسط بغداد سوق قديمة تعرف بسوق الهرج، أو الحراج، تتخصص في بيع وشراء المواد المستعملة. كنت من روادها، واعتدت سماع المنادي فيها يمسك بالسترة المهترئة المستهلكة أو الراديو الخربان وينادي «شختك بختك! هذا الحاضر هذا الموجود». تزايد عليه حتى يرسو عليك المزاد، فتأخذ الحاجة لبيتك، تحاول إصلاحها واستعمالها على ما فيها من عيوب.

يجب أن يتخذ العراقيون هذه الكلمات شعارا لبلدهم. فمنذ سقوط النظام الملكي، تولى حكمهم رجال قضوا حياتهم في العمل السري والتآمر وتحاشي بطش السلطة. لم يعطهم ذلك أي فرصة للدراسة والإلمام بفلسفات السياسة والاقتصاد وفنون الحكم والإدارة. لم يكتسبوا أي خبرة في إدارة بلد أو مؤسسة. أوصلهم للحكم ناخبون أميون جهلاء أو زملاء يحملون نفس مؤهلاتهم. هذا أوان رفع ذلك الشعار «شختك بختك! هذا الحاضر هذا الموجود». على المواطن العاقل أن يتعامل مع هذا الواقع، لا أن يدير ظهره ويقضي حياته في التذمر والشتم والتشكيك.

الشك أول واجب على العلماء. والشك في كل شيء هو ديدن العراقيين. وهو ما يجعلني أعتقد أن العراقي في أعماق نفسه أقرب للعلم والعلمانية منه إلى الغيبيات والميثولوجيا. بيد أن إغراقه في دنيا الشك أخذ يعرقل طريقه. خير مثال على ذلك ما جرى للمجلس العراقي للثقافة الذي أقامه إبراهيم الزبيدي في الأردن لتشجيع الثقافة العراقية. عقد عدة ندوات دعا إليها مثقفين من شتى الأماكن. استضافهم في أرقى الفنادق، ودعاهم إلى أطيب الولائم. وتولى سائر المهمات، كنشر الكتب. دفع لي أجرا على كتابي «أيام عراقية» لم أتسلم مثله من أي ناشر عربي. ما لبث الشك أن دب في قلوبهم. من أين جاء بهذه الأموال؟ هل قبضها من الأميركان، من الخليجيين، أم ممن؟ ما هو غرضه من المشروع؟ أليتسلم الحكم؟ اتهموه بشتى الاتهامات حتى ضاق صدره فصفى المشروع ورحل لأميركا ليقضي حياته في يسر وسعادة وتركهم يتخبطون في أوحال شكوكهم وسلبياتهم. لماذا أعبأ بمصدر الفلوس أو الانتماء الطائفي لأي أحد إذا كان العمل مفيدا وسليما؟

أسمعهم في هذه الأيام يعبرون عن شكوكهم أيضا في مؤسسة الحوار الإنساني التي أقامها الشيخ حسين الصدر في لندن لخدمة الثقافة العراقية. أحضر أمسياتها كل أسبوع ولا أسأل نفسي من أين جاء التمويل وما هي نياته. أحضر وأستمع. إذا رأيت شطوطا في المادة أخرج معتذرا. وإذا تكرر الشطوط انقطع عن الحضور.

ألقيت قبل بضعة أشهر محاضرة في دار «الإسلام» أشرت فيها إلى فضائل الاستمرارية في الحكم، لا سيما حكم بلد كالعراق. وقلت إنه ليس من الحكمة إلقاء القبطان في البحر في وسط الطريق.. دعوه يكمل مشواره. كنت أشير بذلك إلى نوري المالكي. هذا الحاضر هذا الموجود. دعوه يكمل مشواره في تعلم متطلبات الحكم والإدارة ومواصلة مسعاه في توطيد الأمن والاستقرار ومكافحة الفساد. قفوا بجانبه وادعموا خطواته. حاولوا أن تغيروا ما بأنفسكم قبل أن تفكروا في تغيير القبطان.