رعب الغرامة

TT

كانت الطائرة العائدة من باريس إلى بيروت مكتظة بالركاب. وكان بينهم وزراء وسياسيون وربما وجهاء وذوو سلطان ممن لا أعرف. وما إن أعلن القبطان فك الأحزمة حتى جاء إليَّ المضيف يسألني، وكأنه يأتمن نفسه على سر لن يبوح به لأحد: «شو رأيك؟ شو بيصير؟». وبعد نزولنا من الطائرة ووصولنا إلى الجمرك، تنبهت إلى أن هاتفي سقط مني في الطائرة، فذهبت أبلغ دائرة المفقودات. وسارع الموظف إلى مخاطبة الطائرة باللاسلكي ليبلغ عن المفقود، ثم خاطبني وهو ينظر إلى وجهة أخرى وقال في همس: «شو رأيك؟ شو بيصير؟».

كنت على موعد بعد ساعة على عشاء أقامه سياسي حبيب. وكان بين الضيوف دبلوماسيون كبار ووسطاء في الشأن اللبناني ووزراء سابقون ونواب وزملاء صحافيون. ولكن ما إن كان أحدهم يشعر أن فاصل السماع كاف، حتى ينحني هامسا: «شو رأيك؟ شو بدو يصير؟».

عندئذ لم يعد لدي أي شك في أنني الرجل الذي يعرف كل شيء، وأن معي مفتاح ساعة الصفر وكلمة سر الانفجار. خلال الحرب كان السؤال أكثر سهولة: «شو رأيك؟ متى بتخلص؟». تصور، أنه لمجرد أنك صحافي، تستطيع أن تعرف موعد نهاية حرب دامت خمس عشرة سنة. وكنت أردد ما يردده سواي، وهو أنه عندما تنتهي الحرب سوف نعرف جميعا بذلك.

لكن السؤال الآن ليس متى تنتهي، وللنهايات عادة علاماتها، ولكن: متى تبدأ؟ ولكي تعرف ذلك يجب أن تكون على علاقة حسنة جدا مع بادئ الحرب وصاحبها ومديري مخازن السلاح وآمري الميليشيات. ومن حسن حظي أو سوء طالعي أنه لم تربطني يوما صداقة أو معرفة أو حتى مصافحة بصاحب ميليشيا، ولا طبعا بمدير مخزن، فيما عدا مدير مخازن «صحة»، أيام تأسيسها.

ثمة قناعة لدى الناس، وليس مجرد انطباع، أن الصحافي يعرف كل شيء. وربما كان ذلك معقولا قبل أن يتولى السياسيون أنفسهم تهديد الناس بالفتن والمحن، ناهيك بأن أحد هؤلاء وعد خصومه بأنه سيملأ بهم صناديق السيارات. وهدد آخر خصمه بأن منزله لا يحتاج إلى أكثر من ساعتين كي يسقط في يده. وسبب طول الوقت ليس احتمالات الصمود بل طول المسافة، وربما زحمة السير.

لعلها مناسبة للإشادة بضوابط السير التي بدأها وزير الداخلية الدكتور زياد بارود. لقد أرغم السائق اللبناني على أن يكون حضاريا بالقوة. وخلال أيام من نشر «الرادار» تحول اللبناني من هائج على الطرقات إلى عامل بالقانون، لا خوفا من القانون، ولا خوفا على الأرواح، ولا اهتماما بسلامة النفس وسلامة الآخرين، بل بسبب الرعب من الغرامة المالية. ليتها تطبق على الحروب أيضا.