أموالهم وأرواحنا!

TT

هكذا تم الاعتراف أخيرا، بتعذيب المخابرات الغربية أناسا أبرياء طوال سنوات مريرة في معتقل غوانتانامو الرهيب، من خلال موافقة الحكومة البريطانية على دفع تعويضات مالية لستة عشر من المسلمين تم اعتقالهم دون توجيه تهمة لهم في معتقل غوانتانامو، حيث عانوا منذ عام 2003 كل صنوف التعذيب الوحشية بما في ذلك تحقير دينهم ورموزه ومقدساته.

وكشفت مصادر إخبارية عدة أن الحكومة البريطانية آثرت إنهاء القضية خارج المحاكم خشية أن «تضطر للإفراج عن مزيد من الوثائق السرية للمحكمة التي كشفت إحداها تورط رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ووزير خارجيته جاك سترو في قضية غوانتانامو» («الجزيرة نت»، 17 - 11).

وما دام الضحايا مسلمين، فإن المسؤولين عن اعتقالهم دون وجه حق، وعن تعذيبهم، سيُتركون دون محاسبة. وقد قال أحد المعتقلين عمر الدغيس إنه «تم تعذيبه في باكستان في وجود رجل مخابرات بريطاني». كما حضر «مندوب المخابرات البريطانية» إلى سجن باغرام ووجه له اتهامات كثيرة نقل على أثرها إلى غوانتانامو. وتفيد المصادر أن أجهزة مخابرات عديدة، ليس في بريطانيا فقط، بل في عدة دول غربية وحليفة لها، تورطت في جرائم التعذيب والتسليم غير القانوني للمعتقلين ليعانوا من أساليب التعذيب التي شرعها رامسفيلد، والتي تمارس حتى اليوم في السجون العلنية والسرية التابعة للمخابرات الغربية والإسرائيلية.

وفي الوقت ذاته برأت محكمة أميركية أحمد جيلاني، أول سجين في غوانتانامو يحاكم بعد سنوات من اعتقاله غير القانوني في محكمة مدنية، من تهم القتل والإرهاب. والسؤال هو: من يعوض أي إنسان عن سنوات من التعذيب الوحشي الذي هُدرت فيه الكرامات وحُقرت الأنفس، وأُهينت الأرواح والأجساد بطرق يكاد يستحيل تحملها؟ ولماذا لا يحاسب المجرمون المسؤولون عن الحرب والتعذيب؟ وكيف يمكن لأي مال يدفع أن يرمم ويعوض على الضحايا تدميرا منهجيا خسيسا لأرواحهم وكراماتهم وأجسادهم؟

ولكن السؤال الأهم هو: هل ستؤدي هذه الاعترافات بالتعذيب غير المبرر، والظلم الشنيع الذي لحق بهؤلاء المعتقلين، إلى مراجعة جدية للقوانين التي صدرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والتي سمحت لكلّ هذه الدول بالاعتقال العشوائي والتعذيب دون أي رقيب، أم أن هؤلاء المعتقلين الـ16 سيكونون فقط الوسيلة لتجميل وجه هذه القوانين، وإضفاء صفة «الديمقراطية» و«العدالة» على ممارسات لا يرشح منها إلى السطح إلا النزر اليسير، بينما لا يزال يرزح، ربما آلاف آخرون من المسلمين، في سجون غربية سرية منتشرة في إسرائيل، وفي القواعد العسكرية الأميركية الثلاثين المنتشرة في الشرق الأوسط، ولا أحد يعلم عنها شيئا، ولا تصل إلى مسامع الناس؟

إن تبرئة أحمد جيلاني، على سبيل المثال، من 280 تهمة، يجب أن تثير قلقا وشكوكا حول الاستراتيجية الأميركية في الحرب على الإرهاب، وكل القوانين التي صدرت بهذا الصدد، وما لم تتم مراجعة هذه القوانين خاصة البنود التي تسمح بالإجراءات الظالمة ضد أناس أبرياء، فإن هذه المسرحيات من تعويضات وتبرئة، لن تغير من واقع استمرار الجريمة شيئا.

كل ما يتكشف لنا اليوم من حقيقة السياسات والاستراتيجيات الغربية تجاه العرب والمسلمين، قد أثبت دون أدنى شك، عنصرية هذه السياسات والسياسيين تجاه العرب والمسلمين، واستخفافهم بالحياة الإنسانية لكل من هو عربي ومسلم. وهذه هي حقيقة الدول التي تدعي الحرص على «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان»، فجوهر هذه السياسات، جوهر إمبريالي ذو نظرة دونية للمسلمين، لا يأبه بحياة أبنائهم أو بأمنهم واستقرار بلدانهم.

عرضت وزيرة الخارجية الأميركية على الحكومة السودانية مؤخرا «رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب والتخفيف من العقوبات المفروضة على السودان إذا تعاونت حكومة السودان بإجراء الاستفتاء بشكل هادئ وسليم»، وكانت الوزيرة كلينتون قد أكدت منذ عدة أسابيع على أن «نتيجة الاستفتاء محسومة، وأنها تتمثل في انفصال الجنوب». يعني أن قائمة الإرهاب الأميركية ليست سوى أداة إرهاب سياسية تستخدم لتفتيت البلدان العربية وزعزعة استقرارها، وهي أداة عقابية لابتزاز البلدان العربية لتخضع للسياسات الأميركية الهادفة إلى فرض الهيمنة الإسرائيلية على العرب جميعا دون استثناء.

إن السياسة الخارجية الأميركية، تقوم على توجيه تهم الإرهاب جزافا للدول العربية، ثم تقوم بالمقايضة لقاء إسقاط هذه التهم مقابل ثمن مغرٍ ومفيد لمصالح إسرائيل، تماما كما تفعل عند دفع التعويضات لمعتقلي غوانتانامو اليوم كي لا يذهبوا إلى القضاء.

تبذل الولايات المتحدة منذ عقود جهودا وأموالا بسخاء من أجل تقسيم السودان إلى دويلات عرقية وطائفية، بعد أن نجحت في نشر الطائفية في الكيانات السياسية التي تقع تحت هيمنتها واحتلالها في الشرق الأوسط، كي لا تبدو «الدولة اليهودية» نشازا في هذا الفضاء المشرقي المتسم بالتعايش بين الديانات الثلاث، والطوائف والأعراق العديدة منذ آلاف السنين، والذي يمثل مع الهند أنموذج التنوع والتعددية الطائفية والدينية والعرقية المتعايشة بسلام منذ الأزل.

جرائم الاحتلال الإسرائيلي تتكشف أيضا، رغم كل الجهود الأخطبوطية من الولايات المتحدة، إلى أوروبا، للتغطية عليها وإدخال العالم في تقسيمات وحروب طائفية بسببها. فقد أظهر موقع إلكتروني في إسرائيل تفاصيل بالأسماء والأرقام لأكثر من مائتي مجرم شاركوا في قتل الأبرياء في غزة. ويقول الموقع إن الناس الذين نذكر أسماءهم هنا لم يقوموا فقط بارتكاب أعمال القتل، ولكنهم أيضا شجعوا الآخرين بقوة لارتكاب أعمال قتل في غزة أثناء العدوان الوحشي الإسرائيلي عليها عام 2008 - 2009. وتضم الأسماء جنودا وضباطا ومسؤولين، وعلى رأسهم غابي أشكنازي رئيس أركان العدو (انظر «يديعوت أحرونوت» 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2010). فهل سيقدم هؤلاء المجرمون أيضا التعويضات لمن قتلوا ابنه، وزوجته، ولمن دمروا داره، ومدرسته، أو لمن اقتلعوا أشجاره، أو سمموا آبار مياه الشرب، أو جرفوا أرض بستانه؟ أم أنها محاولة أخرى لإضفاء صورة «الديمقراطية» و«العدالة» على أنظمة رجعية عنصرية، تمارس أبشع أنواع القتل، والتعذيب، والاضطهاد الديني ضد المسلمين.

هذه هي حقيقة ممارسات الأنظمة «الديمقراطية» التي تضطهد مواطنيها من المسلمين، فتحرمهم من بناء مساجدهم، وتسيء إلى نبيهم، وتحرم بناتهم من التعليم، ومع ذلك فهي تدعي الحرص على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ولكن أي «إنسان» يقصدون؟ هل يقصدون الإنسان الغربي فقط؟ الجواب: نعم.

فمتى يستفيق الغرب من خضوعه للرغبات الصهيونية، ويتراجع عن القوانين، والإجراءات، والسياسات العنصرية المعادية للمسلمين التي وضعتها الصهيونية لهم بذريعة مكافحة الإرهاب؟ ولا هدف لهذه الحملة من معاداة العرب والمسلمين، سوى التغطية على عنصرية وطائفية كيان زرع الحروب والإرهاب في الشرق الأوسط، المعروف تاريخيا بالتنوع والتعايش والسلام بين أتباع كل الأديان والطوائف والأعراق.