متى نفهم المعنى الحقيقي لـ«الاستقلال»؟

TT

«لا يوجد إنسان مثالي إلى درجة تجيز له حكم إنسان آخر ضد إرادته»

(إبراهام لنكولن)

يحتفل اللبنانيون اليوم بذكرى استقلال لبنان، الذي هو اليوم أحد أقل دول العالم.. استقلالا. غير أن محنة اللبنانيين لا يجوز أن تعزل عن واقع مرير في عموم المنطقة العربية، التي يكتشف بعضنا اليوم أن شعوبها ليست كلها عربية، كما أنها ليست كلها مسلمة.. ثم إنها – على الأغلب – لا تعيش تحت حكم رشيد تزدهر في ظله الحريات وتتفتح زهور التنمية وتعم العدالة.

«الحالة العربية» البائسة ما عادت بحاجة إلى مزيد من الشرح، ومن سوء طالعنا أن أعلم الناس بأمرها جيراننا الأقربون. وبالأمس، عندما كنت بصدد التفكير في موضوع مقالتي اليوم، قرأت مقابلة في «الشرق الأوسط» (عدد السبت 20/11/2010) مع الدكتور إبراهيم غندور، أمين العلاقات السياسية في حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان. ولفتني خلال المقابلة قول الدكتور غندور – بالحرف – في إجابته عن سؤال حول السيناريوهات المتوقعة بعد استفتاء جنوب السودان: «السيناريو الأرجح هو سيناريو الانفصال، لأن الحركة الشعبية تبنت هذا الخط من وقت مبكر وعملت لأجله، ووفرت له الإمكانات والقوة داخل الجنوب. ما نتمناه أن يصاحب الانفصال، سلام دائم مع الدولة التي ستنشأ...»!

كلام هادئ وواقعي بعيد عن «العنتريات» المألوفة في ربوع عالمنا العربي، ولكن هل هذه كل الحكاية؟ أعتقد أن الإجابة بالنفي.

فالحكاية التي يجب أن تحكى هي كيف أساءت السلطات المتعاقبة على الحكم في الخرطوم، التصرف في ملف الجنوب لعقود كثيرة.. سلما وحربا وتفاوضا. وهذا الكلام لا يعني البتة وجوب أن يعيش «النيليون» الجنوبيون بالإكراه مع «العرب» و«النوبيين» الشماليين و«الفور» الغربيين. إطلاقا، فالحلول الشوفينية التي تكذب على الذات ليست هي الحل.

ما قصدته هو أن السلطات الحاكمة في الخرطوم لم تخلق عند الجنوبيين «مصلحة» تشجعهم على التفكير في أنهم يستطيعون العيش في وطن واحد مع «جيرانهم» في أكبر دول أفريقيا مساحة.

ثم إنني لا أتصور أن هناك نظاما حكم السودان كان أكثر إغراء للجنوبيين بالانفصال من النظام الحالي، وذلك لأسباب عقائدية وممارساتية معروفة ومشهودة. وهذه لم تكتف بتنفير الجنوبيين - وجلهم من غير المسلمين – من العيش المشترك، بل نراها فتحت جرحا مع جماعات الغرب المسلمة في إقليم دارفور.

الواقعية المتأخرة التي تبديها السلطات السودانية في «تسليمها» بانفصال الجنوب، وربما غدا إزاء «انفصال» الغرب، ولا يعلم إلا الله ماذا بعد... إقرار بفشل حكم وسقوط ثقافة سياسية وتقصير في الأداء، وفي حجم نكبة الانفصال المسلم به تبدو حتى أمانة الإقرار غير ذات قيمة.

الحالة العراقية والحالة اليمنية، على الأقل، لا تختلفان من حيث المسؤولية التراكمية عن التوق إلى الانفصال عن الحالة السودانية. فمشاريع الانفصال فيهما جدية، كما أنها عند كثير من المتابعين والمحللين، أكثر من منطقية، وبالتالي مبررة.

أصلا، الأجزاء التواقة إلى الانفصال في عدد كبير من الكيانات العربية الراهنة - بما فيها السودان، طبعا - بعيدة جدا عن الكمال والتجانس الذي يسمح لها بالانسجام وبناء «وحدة وطنية»، لكنها تجد الحافز للاستقلال أو الانفصال من عدائها لعدو مشترك تدفعها ممارساته الخاطئة، دفعا لأن تتناسى تناقضاتها... وتجمع قواها للوقوف ضده.

في العراق خاضت القوتان الكرديتان الأساسيتان صراعات طويلة فيما بينهما... لم تخمد أوزارها إلا ممارسات النظام السابق. وفي اليمن، نجد كيف يحصل نوع من التفاهم الضمني بين فصائل وجماعات من أقصى اليمين وأقصى اليسار، من السنة والشيعة، في مواجهة السلطة المركزية.

وفي لبنان، المحتفل اليوم باستقلال مهدد، نذكر جيدا كيف بدأت «حربه» الأهلية عام 1975 في مواجهات قوى لبنانية مع الفلسطينيين، ثم تحولت إلى حرب بين غالبية المسلمين وغالبية المسيحيين، إلى أن بلغنا اليوم محاولة مرحلة منع الفتنة بين المسلمين الشيعة والسنة.

المسألة بكل بساطة مسألة «نوعية الحكم» القائم على احترام الحريات العامة والمحاسبة المسؤولة و«دولة» المؤسسات وروح المواطنة. وهذه النوعية، هي التي عززت ترسيخ الديمقراطية في أوروبا، بعدما اندلعت على أراضيها حربان عالميتان بعد انهيار معظم إمبراطورياتها الكبرى، على الرغم من وجود مناطق كثيرة متنازع عليها بين عدد من الدول الأوروبية.. تعيش شعوبها اليوم في دولة كبرى واحدة اسمها «الاتحاد الأوروبي».