وهم اسمه «الحكومة التوافقية»

TT

تسارع الأحداث الضخمة لا يترك المجال للتوقف عند ظواهر، باتت تتوضَّع في صميم الحياة السياسية والاجتماعية العربية. التأثير السلبي أو الإيجابي لبعض هذه الظواهر أكثر أهمية، في رؤيتي، من الحدث السياسي الطارئ الذي نشبعه تحليلا وتفسيرا، لننتقل بعده إلى حدث مماثل.

أضرب مثلا، فأقول إن أحد الأسباب الجديدة لتفاقم أزمة الحكم والسلطة عندنا، هي ظاهرة ما نسميه «الديمقراطية التوافقية» أو الحكومة التوافقية. بات الإعلام العربي مستسلما للاعتقاد بأن «التوافق» في حكم يجمع بين أصحاب السلطة والمعارضة، هو ضرورة وطنية. أو قومية. أو دينية، باعتباره الحل الأمثل لانسداد أزمة الحكم والسلطة!

أبحث عن وجود وأصول «الحكومة التوافقية» عندنا وعند غيرنا. أجد أن لا وجود لهذه المفردة السياسية المفبركة عربيا، لأن مبدأ الديمقراطية يفرض وجود المعارضة خارج الحكم، بقدر ما يفرض وجود طبقة، أو فئة حاكمة.

كانت هناك ظاهرة حكومة «الوحدة الوطنية» في فرنسا، بزعامة الماركسي ليون بلوم، قبيل الحرب العالمية الثانية. ثم في بريطانيا، حيث استدعى المخضرم ونستون تشرشل من المتحف السياسي، ليتزعم حكومة «وحدة وطنية».

أعلن تشرشل الحرب على ألمانيا النازية المعتدية على بولندا. وفي قمة انتصاره (1945)، أسقطه نضج ووعي الديمقراطية البريطانية. شكل حزب العمال حكومة اشتراكية، لأنها كانت الأقدر، من حزب تشرشل المحافظ، على تقديم مكاسب وضمانات اجتماعية للشعب الذي استنزفته الحرب.

في أوروبا الشرقية، فحيثما استدعت الضرورة، أقامت الأحزاب الشيوعية الحاكمة، في ظل الاحتلال السوفياتي، «جبهات تقدمية» صورية، ما لبست أن سقطت بانحلال الدولة السوفياتية (1990/ 1991). ونرى، منذ أوائل السبعينات، امتدادا لحكم هذه «الجبهات» في سورية، بزعامة حزب البعث (القائد).

وهكذا، فالائتلافات الحكومية حالة معروفة في النظام الديمقراطي الغربي. لكنها لا تلغي المعارضة، وحق الشعب في المعرفة. مع انهيار الآيديولوجيا، وصمود ما يسمى «الطريق الثالث». أو الليبرالية. أو أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، بات ممكنا التعايش بين أحزاب اليمين والوسط واليسار، تحت السطح الديمقراطي للحكم والسلطة. كما حدث في ألمانيا. فرنسا. بريطانيا.

بل أدهش الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي الوسط السياسي الغربي، عندما اكتفى بتطعيم حكومة فرانسوا فيون الأولى، برجال ونساء من الحزب الاشتراكي المعارض، وفي مقدمتهم برنار كوشنير وزير الخارجية. ثم استغنى عن التجربة المرة، وسرح هؤلاء، لرغبته في الاعتماد على حكومة أكثر يمينية، لاستعادة شعبيته المتهاوية، قبل الاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل بعد سنتين. أما المحافظون البريطانيون العائدون إلى الحكم، فقد استعانوا بحزب الديمقراطيين الأحرار (الوسط الليبرالي) لتأمين الغالبية النيابية للحكومة الجديدة.

كيف ولماذا «فبرك» العرب نظرية «الديمقراطية التوافقية» غير الموجودة في مبدأ الديمقراطية الحريص على المعارضة؟! انسداد التجربة الديمقراطية العربية وتكلسها، ألغيا السياسة. قطعا الطريق على إمكانية التناوب على السلطة، عبر انتخابات حرة. همَّشا سلطة الشعب التمثيلية (مجلس النواب). دمرا وجود معارضة بناءة. مقبولة. ومشروعة دستوريا.

المعارضة، إذن، أساسٌ مشروعٌ وأصيل، لا تقوم. ولا تستقيم ديمقراطية من دونها. أوتوقراطية النظام الجمهوري العربي ألغت المعارضة. لاحقت المعارضين. في المقابل، نشأت «معارضات» خارج الإطار المشروع للديمقراطية. معارضة شعبوية. مستغلة للحرية الإعلامية النسبية، كما في مصر، وأحيانا في سورية. والأردن.

مع ارتداد النظام الأوتوقراطي إلى قواعد شعبية غير ديمقراطية، كالقبيلة. العشيرة. الطائفة. المذهب. العرق. النخب الطفيلية الرأسمالية... عكست المعارضة هذه التحولات في النظام والمجتمع. باتت هي أيضا معارضة غير ديمقراطية. معارضة ملتزمة بكل تلك السلبيات الاجتماعية.

حيثما النظام الأوتوقراطي قوي ومتمكن، فقد تحكم بأمان بهذه المعارضة. بل أشركها هامشيا في الحكم، كما في الجزائر وسورية. أما نظام المخزن المغربي فقد تجاوز النظام الجمهوري. واثقا بنفسه، إلى درجة تسليم الإدارة الحكومية إلى أحزاب المعارضة، بما فيها حزب الاتحاد الاشتراكي في التسعينات. التجربة مستمرة بشكل وآخر. لكنها أدت إلى ضعف شعبية قوى اليسار، وتقدم القوى الليبرالية والدينية.

حيثما النظام الأوتوقراطي ضعيف. متهالك، فقد اضطر إلى اللجوء إلى التكاذب «التوافقي» مع قوى المعارضة. سقطت ديمقراطية الاحتلال الأميركي أسيرة للطائفية المذهبية، والعرقية الانفصالية. فظهرت «الديمقراطية التوافقية»، بأبشع صورها السلبية في العراق: محاصصة طائفية في الحكم. هيمنة مذهبية عليه.

قامت حكومة توافقية يتقاسم بعض رجالها غنائم الفساد المروع! يجلس «التوافقيون» على مائدة حكومية أو نيابية واحدة. ثم يصفّون بعضهم بعضا بالاغتيال. بالإقصاء. بالمؤامرة السرية!

تم إقصاء ائتلاف «العراقية» عن حقها في منصب رئيس الحكومة، بالمؤامرة الأميركية/ الإيرانية. الغريب أن بعض أجنحة «العراقية» من سنية أو شيعية، باتت تقبل بالمشاركة في «حكومة توافقية» تقودها الشيعية السياسية والدينية المتعاملة مع إيران!

«الحكومة التوافقية» التي تشارك فيها كل أطراف الطيف السياسي والديني تلغي السياسة. تحذف المعارضة. تحجب النقد. المحاسبة. المراقبة. تغدو قوى الرأي العام الواعي والشارعي مجردة من المعرفة. جاهلة بما يجري تحت السطح الفولاذي للسلطة «التوافقية»، فيما تبدو السلطة الشعبية عاجزة. في هذه الحالة الخطيرة، ينتقل الحوار من المائدة، ومن تحت القبة النيابية، إلى شارع شعبي ممزق طائفيا. وسياسيا.

كرأي متواضع، أقول إنه لا يضير إياد علاوي أن يمارس سلطته من خلال المعارضة خارج الحكومة، ذلك أقوى له وللكتلة السنية، في مكاشفة الشعب بأخطاء الحكم، من المشاركة فيه.

وهم الأكذوبة «التوافقية» في لبنان شبيه بمثيلتها في العراق. إصرار حزب الله على المشاركة في الحكم، تحت شعار «التوافق» وممارسة المعارضة من داخله، أدى إلى عجز الحكومة عن معالجة المشكلات المستعجلة، كالغلاء. البطالة. كيف يستقيم نظام «توافقي» مهدد من داخله بالانقلاب عليه بقوة السلاح. بقوة الإكراه؟! لا بمنطق الإقناع؟!

ديمقراطية الطوائف التي استقرت بنسب متساوية، بمنطق القبول والرضا في حوار الطائف، قبل 21 سنة، تهتز اليوم بسلاح بات عاجزا عن الاحتكاك المباشر بالعدو، لينكفئ نحو احتكاك يومي مباشر، بطوائف تخلت عن سلاحها، بضمان سوري لأمنها. وسلامة وجودها. ودورها. وديمقراطيتها.

من خلال ما قدمت. وعرضت. وذكرت، أبدو رافضا لوهمٍ ديمقراطي مفبرك. ومخادع. حديثي عنه لا يكفي. لا بد من علماء الاجتماع العرب المتراكمين في أقبية البنى الجامعية والأكاديمية. للتقدم لدراسة الظاهرة بموضوعية علمية أمينة وشجاعة، قبل أن يحولها ساحر خطابي شعبوي، إلى ثقافة جماهيرية، تلغي قدرة العقل العربي على المناقشة والاعتراض.