فلسطين: حل السلطة أم سلطة الحل؟!

TT

مر على إنشاء السلطة الفلسطينية أكثر من ستة عشر عاما، نشأت هذه السلطة في ظروف دولية وإقليمية معقدة، عندما تلاقت المصالح الدولية والعربية، قررت جميع الأطراف المعنية بدعم فكرة تكوينها وخلقها من لا شيء، ودعم التيار الفلسطيني الذي يمكن التعامل معه على هذا الأساس، فكانت نتاج مصلحة إقليمية ودولية، وانهالت الضغوط على منظمة التحرير وأطراف فلسطينية أخرى من كل حدب وصوب للقبول بهذا المنطق الجديد، وبعد حياكة طويلة بانت السلطة في اتفاق أوسلو الدولي عام 1993.

كانت، وما زالت، القضية الفلسطينية الهاجس الأكبر للدول الكبرى، ودول عربية عدة؛ فهي القضية المركزية التي لا يمكن لأحد تجاهلها، كما أنها القضية التي لا تتجاهل أحدا، فكل الأطراف معنية بشكل أساسي بهذه القضية التي عملت هذه الدول على خلقها على حساب الشعب الفلسطيني المضطهد، فلكل طرف حكايته معها.

وللخروج من هذا المأزق ورفع هذه القضية عن كاهل الدول المعنية - بشكل مباشر أو غير مباشر - بالقضية، دعم العالم تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية على أساس الحكم الذاتي، وإقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس وحق العودة، وبذلك يمكن تحجيم القضية من دولية وإقليمية ووضعها على ظهر الفلسطيني وحده، والتملص بشكل أو بآخر من المسؤولية، فكانت فرصة لا تعوَّض للاحتلال الإسرائيلي الذي وجدها هدية من السماء للتخلص من إدارة وتحمل مسؤولية مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، وخلق واقع جديد لوقف الانتفاضة الشعبية الفلسطينية التي أنهكت إسرائيل على جميع الأصعدة.

على كل حال، أنشئت السلطة وتم وضع أسس لها، فكل دولة دعمت أساسا ما لكي تقوم هذه السلطة، وبالفعل ظهرت مؤسسات السلطة الفلسطينية وتسلمت حركة فتح بشكل أساسي مفاتيحها وإدارة شؤون ما يُعرف بالمناطق الفلسطينية وأراضي الحكم الذاتي.

من هنا، بدأت معركة سياسية جديدة، وانتهى تقريبا دور منظمة التحرير وسطرت القيادة الفلسطينية هدفا وطنيا جديدا، هو إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف في الضفة الغربية وقطاع غزة، واستمرت معركة المفاوضات من ذلك الحين إلى يومنا هذا، واستمر الكيان الصهيوني بإقامة المستوطنات وزيادة أعداد المستوطنين على أراضي 67 التي تمثل حلم إقامة الدولة الفلسطينية، فانفجرت الأوضاع عام 2000 بانتفاضة الأقصى بوجه إسرائيل، ليثبت الشعب الفلسطيني أنه لن يتخلى عن ثوابته في القدس، فضعفت السلطة الفلسطينية وكادت تغيب عن الساحة، فالاحتلال استهدف كل مقومات السلطة لرفضها أن تكون كتيبة عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي لضرب مقاومة الشعب الفلسطيني على الرغم من وجود اتفاقيات أمنية، فدمر مقراتها، بالإضافة إلى ما حدث في قطاع غزة من سيطرة حركة حماس عام 2006 نتيجة رفض الأخيرة نهج السلطة التفاوضي، ومع ذلك دخلت في إطار السلطة فتواجه المتناقضان الفلسطينيان وجها لوجه.

إلا أن الدول العظمى والإقليمية أيقنت لما يمكن أن تحدثه هذه الانتفاضة على الصعيدين الإقليمي والدولي من تبعات قد تفجر حربا عالمية جديدة، وتغير معالم المنطقة بأسرها، فسارعت من جديد للتدخل بقوة والضغط على إسرائيل للعودة إلى طاولة المفاوضات، وإعادة ترميم مؤسسات السلطة الفلسطينية، واستمر الاستيطان حتى قضم أكثر من 40% من مساحة أراضي الضفة الغربية إلى يومنا هذا، والسلطة الفلسطينية في متاهة الاستيطان الإسرائيلي الذي بدد حلم إقامة دولة فلسطينية ومتاهة الانقسام بين الضفة وغزة، ومتاهة الضغط العربي والدولي للقبول بشروط مصالحها التي لا تلتقي ومصالح الشعب الفلسطيني، ومتاهة عدم جدوى المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يستخدم منطق القوة بفرض واقع على الفلسطينيين والعالم جميعا.

السلطة الفلسطينية كيان قائم بمدى رضا الدول المانحة التي تدعم وجودها ماليا، فلا وجود للسلطة الفلسطينية كما لسلطة حماس في غزة من دون الدعم الخارجي، فالقضية الفلسطينية تعيش التناقض الدولي وتضارب المصالح الدولية.

لكن نقطة قوة السلطة الفلسطينية تكمن في ضعفها؛ حيث يعلم المفاوض الفلسطيني أن التلويح بحل السلطة ورقة بيده أقوى من تفجير قنبلة ذرية؛ لأن أقوى الدول تخشى من هذا السيناريو الذي سيفقدها السيطرة على الأوضاع الإقليمية والدولية، ويدخلها في متاهات صراعات جديدة ويبدد الاستقرار الهش في منطقة تسعى قوى تسميها (إرهابية) إلى السيطرة على زمام الأمور.

فالعودة للمفاوضات المباشرة بضغط من الولايات المتحدة ودول عربية جاءت نتيجة لهذا الخوف، فمصالح الولايات المتحدة الحيوية تتضرر بشكل كبير في المنطقة ويزيد تهديد وجود أكثر من 150 ألف جندي أميركي يحاربون في أفغانستان والعراق ومعسكرات هنا وهناك.

لكن استمرار الاستيطان وتهويد القدس الشرقية وطرد سكانها.. كل ذلك ما زال مستمرا تحت أعين الجميع؛ فالسلطة الفلسطينية لا تمتلك أي قوة لإيقاف هذا الاحتلال الإسرائيلي من دون تدخل الدول الكبرى، وواقع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ الذي هو سبب وجودها واستمرارها قد تبدد تماما تحت هذه الظروف، ولكن العالم يعلم جيدا أن السلطة الفلسطينية هي الحل وصمام الأمان لقنبلة إذا انفجرت ستكون عواقبها وخيمة وستغير وجه المنطقة برمتها.

* كاتب فلسطيني