المحكمة في مواجهة الغجر

TT

عجيب بعض أمور السياسة في لبنان، فقد مر القرار الذي اتخذته إسرائيل بإعادة جزء من قرية الغجر التي كانت أحد المطالب اللبنانية مرور الكرام بردود فعل خافتة، ولم نسمع عن جهود أو مفاوضات استعدادا لاستعادة هذه الأرض، بينما الموضوع الطاغي المسيطر على الساحة منذ أشهر ويجبّ أي شيء آخر، هو المحكمة الخاصة وقرارها الظني أو الاتهامي الذي يترقب الجميع صدوره بعد أسابيع أو شهور، والله أعلم.

في موضوع الغجر هناك قضية سيادة وأرض اعتبرت محتلة، وسكان يجب توفيق أوضاعهم، وعلاقات دولية وإقليمية في ضوء الحديث عن أن هذه القرية أصلا جزء من هضبة الجولان السورية، بينما المحكمة موضوع يتعلق بجريمة اغتيال رئيس وزراء أسبق كان له ثقله الدولي والإقليمي بخلاف وزنه السياسي المحلي، وبالتالي يفترض أن تكون هناك مصلحة للجميع في معرفة الحقيقة في هذه الجريمة ثم التعامل مع معطيات قرار الاتهام الذي لا يعرف أحد مضمونه، باعتبار أن كل ما سرب مجرد تكهنات يصعب التعامل معها على أنها حقيقة حتى يصدر القرار.

المفارقة هناك أن الحجج التي يسوقها فريق في لبنان ضد المحكمة من الآن حول المصلحة الوطنية والاستقرار الذي سيهدده قرار المحكمة، حسب وجهة نظرهم، لا تنطبق على قضايا لبنان المتعلقة بسيادته ومصالحه سواء على صعيد إعطاء الاهتمام الكافي لاستعادة أراضيه، أو إعطاء فرصة للاستقرار الحقيقي من خلال أجواء تتيح للاقتصاد الاستمرار في النمو من دون العيش تحت خطر التهديدات بأعمال عنف، أو السماح للميزانية بأن ترى النور من دون عراقيل أيضا بسبب تمويل المحكمة.

وطوال الشهور الماضية منذ أول تسريب عن اتجاه المحكمة لاتهام أفراد من حزب الله بالتورط بشكل أو بآخر في قضية الاغتيال، ثم قضية «شهود الزور» التي تعد إحدى العجائب هي أيضا، هناك حملة ضد المحكمة وحياديتها استباقا لقرارها الذي لم يتسرب عنه سوى تكهنات بغرض وقف عملها أو تمويلها، أو في الحد الأدنى اعتبار القرار الذي سيصدر لا شيء.

والسؤال الذي يجب أن يطرحه على أنفسهم الفرقاء الذين يقودون الحملة ضد المحكمة سواء بدعوى أنها سيف أو أداة في يد قوى أخرى، أو لأن قرارها قد يهدد بأعمال عنف ومواجهات طائفية يستخدم فيها السلاح مجددا هو: وهل لو نجحوا في إيقاف عمل المحكمة وصدور قرارها ستستقر الأمور؟ والإجابة المنطقية هي: لا، لأن الشكوك ستزداد وسيكون الإحساس بالظلم أكبر لدى الفريق الذي تعرض لموجة اغتيالات ممنهجة يصعب اعتبارها كلها مجرد صدف أو لا علاقة لها بالجريمة الأولى، وسيظل لبنان وفرقاؤه يدورون في حلقة مفرغة من دون أن يستطيع تجاوز حالة ما بعد الاغتيال.

على العكس، فإن صدور قرار المحكمة والتعامل معه بعد معرفة تفاصيله بهدوء يتيح لجميع الفرقاء وللمجتمع اللبناني ككل أن يتجاوز هذه المرحلة ويتطلع إلى المستقبل، حتى لو كانت هناك حاجة لتقديم أشخاص إلى المحكمة لمواجهة مصيرهم إذا ثبت تورطهم، وهذا سيعطي روحا جديدة للمجتمع والأجيال الجديدة التي سمعت أو قرأت عن تاريخ الاغتيالات السياسية التي حدثت منذ السبعينات ولم يحاسب فيها أحد وجرى فيها تحقيق جاد.

وحتى لو جرى اتهام شخصيات أو أفراد من حزب الله كما يقول الحزب اعتمادا على تسريبات وتقارير، فإن هذا لا يعني أن طائفة بكاملها أخذت قرار الاغتيال، أو أن الحزب يمثل طائفة بكاملها، المسؤولية هنا تقع على عاتق الأفراد الذين قد يوجه إليهم الاتهام، ويجب على الجميع، بما في ذلك الجانب المؤيد للمحكمة التعامل معها هكذا، وهناك محامون ومرافعات وحاجة إلى أدلة، وبالتالي، فإن المسافة بين الاتهام والإدانة طويلة. المصلحة هنا، وهي للجميع، انتظار القرار والتعامل والتعاون معه لتجاوز هذه المرحلة والبناء لمستقبل مستقر الكل يستفيد منه.