إيران.. لا ضربة محدودة ولا واسعة

TT

يبدو أن إيران لا تزال تتبنى نظرية أخطر الاحتمالات في توقعاتها لنوايا الغرب تجاه برنامجها النووي. فعلى الرغم من التصريحات المتكررة لوزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، المعارضة لمهاجمة منشآتها النووية، أجرت وسائل الدفاع الجوي «الإيراني» مناورات واسعة استمرت خمسة أيام لفحص التدابير اللازمة لمجابهة هجوم جوي على أهداف محددة.

يعود أحد أهم أسباب غياب قرارات العمل العسكري إلى أن المخططين العسكريين والمحللين الفنيين يشككون في جدوى هجوم محدود على الأهداف النووية الإيرانية، ويرون أنه سيؤدي إلى تأخير البرنامج سنتين أو ثلاثا لا أكثر. ومع أن هذا التصور منطقي من الناحية الفنية، فإنه يعطي دليلا على عدم وجود رغبة أميركية في القيام بفعل ما لتغيير النظام الإيراني، بعد أن أصبح الدرس العراقي عبرة لأميركا قبل غيرها.

ضربة أميركية للمفاعلات النووية وحدها لا يمكن أن تزعزع النظام، ولن تشجع مراكز القوى على التحرك لإسقاطه، ومن المستبعد أيضا أن تؤدي إلى استقطاب جماهيري كبير لصالح النظام. فالعامل الجماهيري لهذه الحالة أضعف حلقات التأثير في المعادلات السياسية والأمنية. ولا ينبغي التفكير كثيرا في البعد الجماهيري للضربة، ما دامت حدودها مرتبطة بأغراض محدودة.

المناورات العسكرية الإيرانية تكررت بشكل لافت، من دون دخول عناصر مؤثرة في سير الصراع. فالتهديدات على قلتها تراجعت حدتها كثيرا، ولا حشود عسكرية في المنطقة، ولا استفزازات غربية، حتى في فرض التفتيش على السفن والطائرات المتجهة من وإلى إيران لتنفيذ العقوبات الدولية. وتطبيق العقوبات المالية يجري بنمط هادئ، والحديث عن النشاطات الإيرانية الخارجية تراجع كثيرا حتى في وسائل الإعلام، لأنه لم يعد هناك من يسرب معلومات مثيرة ومهمة.

من الطبيعي أن يجري تكرار المناورات العسكرية في حالة دخول معدات وأسلحة حديثة، أو نتيجة فشل مناورات سابقة، أو لعدم الثقة في القدرات القتالية، أو لابتزاز الطرف المقابل. وكل هذه العناصر لم تطرأ عليها متغيرات مهمة. لذلك، لا ضرورة عملية للإكثار من المناورات القتالية الإيرانية، لأنها يمكن أن تعطي نتائج سلبية. وما قيل عن تطوير منظومة صواريخ «S200» لبلوغ مستوى «S300» لا يؤخذ على محمل الجد.

المجتمع الدولي خفف كثيرا من توجهات التصدي للبرنامج النووي الإيراني إلى درجة توحي بأنه لم يعد أزمة دولية ساخنة، على الرغم من الفشل في الحصول على أي تنازلات إيرانية. وهذا أعطى صورة للحملة الأممية كأنها لأغراض سياسية أكثر من استنادها إلى معطيات حاسمة. ومثل هذا التصور يتقاطع سلبا مع تراكم كبير من الشكوك والمعطيات الفنية والاستخبارية والتحليلية. أو أن أميركا تشعر بعجز كبير في اتخاذ قرارات حاسمة لثني إيران عن المضي في مشاريعها. أي أن دائرة التأثير الإيراني بدأت تتسع على حساب دائرة التأثير الأميركي، وهو الأرجح.

من علامات الفشل الأميركي: شح المعلومات التي تصرح بها الأجهزة الأميركية عن البرنامج الإيراني. وغالبا ما سجلت تصريحات المسؤولين الأميركيين تضاربا في وصفهم للقدرات النووية. وكانت المخابرات الأميركية «بخيلة» هذه المرة في الكشف عما يمكن كشفه من معلومات، ولم تضبط مواد نووية مهمة في طريقها إلى إيران، ولم يعلن شيء عن مصادر حصولها على مثل هذه المواد، خاصة ما يتعلق بأجهزة الطرد المركزي. وما قيل عن أن كوريا الشمالية تزودها بمواد نووية يأخذ إطارا عموميا مكررا بقي نظريا.

الفشل الأميركي لا يعني صك براءة لإيران من توجهات التسلح النووي، بقدر ما يعني فشلا أميركيا في الوصول إلى المستوى المفترض من خطط جمع المعلومات وتحليلها. ويثبت أن لدى المؤسسات الإيرانية براعة في طرق التصرف والإخفاء. وهذا الرأي قد تدعمه التصريحات الأميركية التي تحاول التأكيد على أن العقوبات بدأت تؤثر إلى حد تشكيك المرشد الأعلى في مصداقية الصورة التي يقدمها إليه أحمدي نجاد. وهو تصور لا يمكن الأخذ به، لأن المرشد محاط بحلقات متعددة من أجهزة المتابعة والتحليل ترتبط به مباشرة.

وهكذا تشير المعطيات إلى أن الحديث عن ضربة أميركية لإيران قد خرج من مسلسلات الأحلام، وهو ما سيدفع إسرائيل إلى توسيع قدراتها النووية في وسائل الإطلاق البحري، لمجابهة ضربة نووية مفاجئة قد لا تقع أبدا.. أو إلى تحريك الموقف شمالا وجنوبا لإعادة تسخين الملف الإيراني.