معركة ضرب إيران

TT

مفهوم أن تضغط إسرائيل على الولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران ومنشآتها النووية. فتل أبيب تريد أن تبقى موازين القوة والتفوق العسكري بالمنطقة في يديها، ولا يهمها في ذلك تداعيات مثل هذه الضربة على التيار الإصلاحي في إيران، أو انعكاساتها على المنطقة. فالمطلوب بالنسبة لها تدمير البرنامج النووي الإيراني أو تعطيله لسنوات طويلة مقبلة لكي تبقى القدرة النووية في يدها وحدها تستخدمها للتهديد بـ«خيار شمشون».

وليس سرا أن إسرائيل سبق أن قامت بحملات قوية مستترة ومعلنة لإعداد الأجواء لضرب المفاعل النووي العراقي في ثمانينات القرن الماضي، ثم واصلت حملاتها ضد النظام العراقي مستغلة أخطاء صدام حسين في المنطقة حتى انتهى الأمر بالغزو الذي أيده بشدة أنصار إسرائيل في دوائر صنع القرار الأميركي. وقد كشف الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في مذكراته «الجزئية» التي صدرت هذا الشهر كيف أن الإسرائيليين طالبوه بضرب منشآت إيران وسورية، وأنه كلف البنتاغون بالفعل بإعداد خطط ودراسات عن مثل هذه الضربات التي لم يقم بها بسبب اختلاف وجهات النظر بين المخططين في الإدارة الأميركية حول جدوى ومخاطر مثل هذه العمليات. ورغم أن بوش أكد أن الخيار العسكري ضد إيران كان دائما على الطاولة فإنه قال إنه بقي كخيار أخير، على أساس أن واشنطن فضلت حينها -ولا تزال حتى هذه اللحظة تفضل - خيار العقوبات. أما بالنسبة لسورية فإن بوش كشف بشكل صريح أنه لم يستجب لمطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها إيهود أولمرت لتنفيذ غارة جوية أو إرسال فرق قوات خاصة لضرب منشأة دير الزور لخطورة العملية، وزاد على ذلك بأن أكد أن إسرائيل نفذت العملية لوحدها لاحقا.

في إطار الضغط الإسرائيلي المستمر، والحسابات الأميركية التي ترى أن أي ضربة عسكرية لإيران في الوقت الراهن ستكون لها تداعيات سلبية كثيرة وخطيرة، يمكن النظر إلى سجال الأسبوع الماضي بين وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس ورئيس الأركان الإسرائيلي غابي أشكنازي. فالمسؤول الأميركي عبر عن الرأي الغالب في أوساط إدارة أوباما، وهو أن الضربة العسكرية لن تقدم حلا طويل الأمد، بل ستجعل برنامج طهران النووي «أعمق وأكثر سرية»، كما أنها ستقوي النظام في وجه الانقسامات والمعارضة الداخلية. وما لم يقله غيتس هو أن التداعيات قد تضر بالمصالح الأميركية، خصوصا في ظل العمليات العسكرية الغربية في أفغانستان والأوضاع الاقتصادية العالمية الهشة. هذا الكلام لم يعجب الإسرائيليين بالطبع فانبرى رئيس الأركان ليرد علنا على كلام غيتس، معتبرا أن العقوبات غير فعالة، أي أنه يقول إن الضربة العسكرية هي الحل الذي تريده إسرائيل بغض النظر عن أي تداعيات داخلية في إيران أو إقليمية.

الواقع أن إسرائيل تجني أقصى المكاسب من موضوع إيران سواء تحققت لها الضربة العسكرية التي تريدها، أم لم تتحقق. فهي تحصل على الضمانات الأمنية الأميركية التي تتعزز باستمرار، بما في ذلك تلقي المعلومات الاستخبارية، كما تتلقى أكثر الأسلحة الأميركية تطورا بما يضمن لها التفوق النوعي. وفي هذا الإطار حصلت على الدعم والتقنيات الأميركية بما مكنها من تطوير درعها الصاروخية التي ستستكمل بحلول عام 2015. لكنها لم تكتف بكل ذلك، بل ظلت ترفع عقيرتها بالتحذير من خطر البرنامج النووي الإيراني، وكأنها حمل وديع يخاف من ذئب جديد في الحارة، علما أن هذا «الحمل» يملك ما لا يقل عن مائة رأس نووي حسب تقديرات الخبراء، ويرفض أي بحث في موضوع الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي، أو أن يشمله الكلام عن شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل.

ما تريده إسرائيل هو أن يبقى «السيف النووي» حكرا عليها في المنطقة مسلطا على رقاب الآخرين، بما يتيح لها مواصلة سياسة الغطرسة ورفض التنازل عن الأراضي المحتلة، والتعنت في موضوع السلام إلا إذا تم وفق شروطها التعجيزية. ولتحقيق هذا الهدف تنبري لتصعيد حملتها، على أمل أن يؤدي هذا الضغط إلى ضرب إيران، أو إلى حصولها (أي إسرائيل) على المزيد من المساعدات العسكرية المجانية، والترضيات السياسية. وهذا هو ما رأيناه خلال زيارة نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن، إذ أدخل موضوع التصدي لإيران ضمن مقايضاته مع واشنطن بشأن استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وحرص في خطبه وتصريحاته في أميركا على التركيز على موضوع التهديد الإيراني لكي يساوم به خلال ضغوط إدارة أوباما عليه في موضوع استئناف مفاوضات السلام.

إذا كانت نيات إسرائيل واضحة بهذا الشكل، يبقى السؤال هو كيف ستتصرف إيران؟

حتى الآن يبدو أحمدي نجاد وكأنه يكرر تجربة صدام حسين، التي انتهت إلى تدمير العراق وهز استقرار المنطقة، في حين أن ما تحتاجه إيران هو انتهاج سياسة عقلانية، أقل عدوانية، تراجع فيها سياسة التمدد الخارجي، وتطمئن جيرانها لكي تنزع من إسرائيل ورقة تساوم بها في ملف السلام، وتدفع بها الدعوات المتصاعدة لشرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل. فالطاقة النووية السلمية حق مشروع للجميع، أما التسلح النووي فسوف يفتح أبواب الجحيم في منطقة ملتهبة أصلا.