لماذا السكوت؟

TT

حضرت قبل أيام طقوس القداس الذي نظمه المسيحيون العراقيون المغتربون في بريطانيا على أرواح الأبرياء الذين قتلوا في بغداد مؤخرا، ولا سيما عند تفجير كنيسة سيدة النجاة. جرت مراسم القداس في كنيسة مار بهنام في لندن، واكتظت الكنيسة لا بالمسيحيين فقط وإنما بالمسلمين وبعض اليهود أيضا من أصل عراقي. رأيت الدموع وسمعت النحيب، بل والعويل، عندما راح القس يتلو أسماء الضحايا، ومنهم طفلة عمرها ثلاثة أشهر، وآخر في الثالثة من عمره.

مما تعلمته من دراستي للفن ملاحظة تفاصيل الحياة ودقائقها. لاحظت أن السيدة الجالسة بجانبي كانت أثناء تلاوات القداس تضع أصابعها على صدرها بما حملني إلى الاعتقاد أنها كانت تحك صدرها. تكررت هذه الحركة. قلت لنفسي: يمكن صدرية هذه المرأة مليئة بالقمل. ولكنني سرعان ما لاحظت أن نساء أخريات كن يفعلن مثلها. يعني، هل مسيحيات العراق كلهن مقملات؟ تأملت في الموضوع ثم أدركت سر الحركة. كانت هذه السيدة ترسم الصليب على صدرها بيدها. الأوروبيون يرسمون الصليب بصورة أخرى أوضح. يضعون يدهم اليمنى على رأسهم ثم على صدرهم ثم على كتفهم اليسرى وأخيرا على كتفهم اليمنى. يقومون بذلك بصورة واضحة وواسعة لأنهم أسياد بلدهم والصليب مذهبها الرسمي ولا يخشون لائمة لائم. ليس الأمر كذلك مع المسيحي العربي، فهو يشعر بالحرج عند التصليب أمام الآخرين. هكذا اعتادت هذه السيدة أن تختصر الصليب بحركة منمنمة سريعة ومتسترة.

هذا ما تقوم عليه الفكرة الصهيونية، وهي أن الأقليات لا يمكن أن تحيا حياة طبيعية بين أكثرية من دين أو قومية أخرى. ولكن أكثر اليهود لم يلتفتوا إلى نظريتها. وفعل مثلهم المسيحيون العراقيون فصمدوا في عراقهم وتعايشوا مع مسلميه طوال القرون. وأكثر من ذلك، وقفوا تلك الوقفة البطولية مع إخوانهم من مسلمي ويهود الموصل يقاتلون دفاعا عن المدينة ضد الغزو الفارسي في صفحة من أروع صفحات تاريخ العراق والتعايش الديني فيه. رأيت صورا منها في أديرة الموصل، ومعها صور ضحاياهم الذين ذبحهم الغزاة (لا المسلمون العراقيون كما يتصور البعض).

انتهت المراسم بكلمة مؤثرة ألقاها الأب نزار سمعان، وقد بدا الانفعال والغضب عليه. ومن يلومه؟ كان فيها سؤال ألقاه علينا. قال: كل هذه الفتاوى التي تصدر من بعض المفتين في العالم الإسلامي عن شتى الأمور.. ألم يخطر ببالهم أن يؤكدوا على الفتاوى التي تكفر من يسفك دم الإنسان، دم الأطفال والأبرياء، الأبرياء من أي دين أو مذهب؟ ماذا يفيد إصدار بيان بعد فوات الأوان وموت الإنسان لمجرد التعبير عن الأسف عما جرى؟

كان بين الحاضرين في المقدمة شيخ من مشايخ المسلمين، أنهى الحفل بمثل هذه الكلمة. وبقينا ننتظر الفتوى.

كان الأب نزار سمعان شجاعا في حثه المسيحيين على الصمود والتمسك بهويتهم العراقية التي أخذ الكثير منا، نحن المسلمين، ينبذها ويتخلص منها. فمن يطيب له العيش في بلد يذبح فيه البعض بعضهم الآخر؟