لا جديد.. والموقف من «الغجر» كرفض الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب!

TT

غير مستغرب أن يبدي حزب الله «ممانعة» ترتقي إلى مستوى الرفض للانسحاب الإسرائيلي من الجزء الشمالي من قرية الغجر الجنوبية فهو يخشى، إن تواصلت الانسحابات الإسرائيلية وشملت لاحقا مزارع شبعا وما تبقى من وجود الإسرائيليين العسكري في الجنوب اللبناني، أن يخسر آخر ورقة يستخدمها في مواصلة الإصرار على تقديم نفسه للبنانيين وللعالم كله على أنه «مقاومة» رغم أن هذه المقاومة في حقيقة الأمر قد خسرت مبرر احتفاظها بهذه الصفة منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 لإيقاف حرب يوليو (تموز) عام 2006.

وفي هذا الإطار فإن رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد هو آخر من تحدث حول هذه المسألة حيث وصف الإجراء الإسرائيلي المزمع بأنه «ليس انسحابا ولا انكفاء بل خداع وحيلة تدبر في ليل بالتواطؤ مع الأمم المتحدة وأمينها العام ليقال للرأي العام العالمي إن الإسرائيليين قد نفذوا ما يتوجب عليهم من الانسحاب من الأراضي اللبنانية.. إن هذا أمر لا ينطلي على المقاومة وإن هذا الأمر يجب أن يكون واضحا كي لا ينزلق أحد في منزلق الترحيب الأهوج والمتسرع ويعتبر أن ما أقدم عليه العدو الإسرائيلي هو تنفيذ للقرارات الدولية».

ما أشبه اليوم بالبارحة ولعل من لم تصدأ ذاكراتهم ما زالوا يتذكرون أن حزب الله، ومعه الممانعون كلهم القريبون منهم والبعيدون، كان قد واجه فكرة الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في عام 2000 بممانعة أشد من ممانعته لفكرة الانسحاب من الجزء الشمالي لقرية الغجر وقد اعتبر يومها أن الانسحاب من طرف واحد ودون مفاوضات معه واتفاقات مؤامرة ما بعدها مؤامرة لكنه وهذا ما قد يحصل الآن ما إن انسحب الإسرائيليون حتى بادر إلى تبني ذلك الانسحاب واعتباره تحريرا بقوة السلاح وتحت ضغط المقاومة وها هي بعض المكونات اللبنانية الأساسية تدفع ثمن ذلك «التحرير» بمواجهة كل هذا الضغط الذي تمارسه دولة ضاحية بيروت الجنوبية بقيادة وكيل الولي الفقيه حسن نصر الله لتغيير معادلة لبنان الطائفية التقليدية.

في عام 2000 بادر حزب الله، ومعه الممانعون الإقليميون القريبون والبعيدون، إلى رفض الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد من الجنوب اللبناني لأنه، بدفع من إيران والحلفاء الآخرين، أراد الاحتفاظ بهوامش الاشتباك العسكري مع إسرائيل للإبقاء على مبررات المشروع السياسي الإيراني في هذه المنطقة ولاستخدام هذه المبررات لتواصل طهران إنشاء جسور متقدمة لنفوذها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، في لبنان وغزة، ولتستمر في فرض نفسها فرضا على معادلة حل أزمة الشرق الأوسط وتسوية القضية الفلسطينية.

لكن وبعد أن أصرت إسرائيل على الانسحاب من طرف واحد وأنجزت ذلك الانسحاب في فترة زمنية قياسية دون أي اشتباك مع حزب الله ودون أن تتعرض حتى لمجرد طلقة واحدة من مفارز ميليشياته المتقدمة بادر هذا الحزب بتوجيهات من حلفائه «الممانعين» إلى تعديل تكتيكاته وبدل رفض الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد ودون مفاوضات واعتباره مؤامرة أحيكت بليل بالاشتراك مع الأمم المتحدة وأمينها العام، الذي كان في ذلك الحين كوفي عنان، بادر إلى ركوب موجة هذا الانسحاب على أساس أنه تحرير لا مثله تحرير في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي وأنه انتصار للمقاومة التي يجب أن تبقى مقاومة من المهد إلى اللحد ويجب أن لا يعترض أي كان لا على سلاحها ولا على جيشها المذهبي من لون واحد ولا إقامتها دولة طائفية داخل الدولة اللبنانية المتعددة الطوائف.

ما كان من الممكن أن يسيطر حزب الله على لبنان كل هذه السيطرة لو لم يغير مواقفه من الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني وما لم يتخلَ عن اعتبار هذا الانسحاب مؤامرة متورطة فيها الأمم المتحدة وأمينها العام ويبادر إلى ركوب موجته واعتباره انتصارا للمقاومة بل واستغلاله لفرض نفسه على المعادلة الطائفية اللبنانية كما يحصل الآن وكما يتضح من خلال طريقة تعامله مع المحكمة الدولية التي جرى تشكيلها لمعرفة الذين نفذوا جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.

لذلك، ولأن الانسحاب الإسرائيلي من الجزء الشمالي من قرية الغجر، الذي كما هو واضح سيستكمل بانسحاب لاحق من مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، سيحرم حزب الله من بقايا الهوامش التي يستخدمها لمواصلة اللعب بالمعادلة الطائفية اللبنانية ولمواصلة السعي لصياغة لبنان سياسيا بما يتلاءم مع ما يريده الإيرانيون في هذه المنطقة، فإن هذا الحزب قد بادر إلى اتخاذ هذا الموقف الذي اتخذه منه وهو ذات الموقف الذي كان اتخذه في البدايات من الانسحاب من الجنوب اللبناني في عام 2000.

إن المفترض، لو أنه ليس وراء الأكمة ما وراءها، أن يبادر حزب الله إلى الترحيب بأي انسحاب من الأراضي اللبنانية ما دامت حكومة لبنان الشرعية قد رحبت به. لكن ولأن هذا الحزب بتوجيه من إيران يريد الإبقاء على ما يشكل مبررا للاستمرار في طرح نفسه على أنه مقاومة لا نهاية لها وأنه من حق هذه المقاومة أن تكون جيشا فئويا وأن تكون لها دولتها فإنه قد واجه هذا الانسحاب بالتشكيك والرفض وحذر الذين رحبوا به ومن بينهم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة سعد الحريري بأن عليهم «ألا ينزلقوا إلى منزلق الترحيب الأهوج والمتسرع»..!!

ثم وبغض النظر عن هذا الجانب فإن إحدى مشكلات الانسحاب الإسرائيلي من القسم الشمالي من قرية الغجر هي مشكلة أن سكان هذا القسم باتوا يحملون الجنسية الإسرائيلية وأن هؤلاء، وفقا للمعلومات يصرون على التمسك بهذه الجنسية وهذه مسألة في غاية الخطورة وهي مسألة من الضروري أن تكون هي هاجس حزب الله وهاجس الحكومتين السورية واللبنانية فتفضيل مواطن عربي سواء أكان سورية أم لبنانيا جنسية الدولة المعادية على جنسيته الوطنية يعني أن هناك خللا معينا وأنه لا بد من معالجة هذا الخلل بدل الانشغال بهذه المواقف الاستعراضية.

إن المفترض أنه لا خلاف على ما إذا كانت قرية الغجر بالأساس، وقبل أن تتوسع شمالا بعد احتلال عام 1967، سورية أم لبنانية فالمهم هو ألا تبقى هذه القرية إسرائيلية وألا يفضل سكانها هوية إسرائيل على هويتهم الوطنية وهذا إن كان لا يهم حزب الله فإنه بالتأكيد يهم سورية والشعب السوري ويهم لبنان والشعب اللبناني فأولا لا بد من الترحيب بانسحاب الإسرائيليين من أي أراضٍ عربية محتلة وثانيا لا بد من تقدير ما يعنيه تمسك مواطنين عرب بهوية وجنسية عدوهم وبخاصة وأن هناك أراضي سورية وفلسطينية لا تزال ومعها سكانها العرب تخضع للاحتلال الإسرائيلي الذي لا بد أن يزول في يوم من الأيام طال الزمان أم قصر.