الشهادات العليا تحت المجهر

TT

يشتكي حملة الشهادات العليا في السعودية من عدم قبول الجامعات لتوظيفهم رغم استيفائهم شروط القبول، بحسب ما تقره اللوائح والأنظمة. وأكثر الغاضبين يرددون أن مؤسسات التعليم العالي تحجز وظائفها لصالح العائدين من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، متجاهلة خريجي جامعاتها المحلية.

الحقيقة أن هناك تغيرا في سياسة التوظيف في القطاع الأكاديمي والبحثي فرضته المرحلة، لأنه من غير المعقول أن تضع الجامعات خططا استراتيجية لتطوير العمل البحثي والأكاديمي، وأهم ركن من أركانه، وهو العنصر البشري، لا يزال نظام تعيينه على رأس العمل تقليديا لا يتماشى مع الخطط الموضوعة.

الغاضبون محقون في غضبتهم، ولكن الجامعات كذلك محقة في انتقاء موظفيها، فكثير من خريجي الجامعات المحلية وإن كانوا حملة شهادة ماجستير أو دكتوراه، يفتقرون لبعض المهارات المطلوبة، أهمها على الإطلاق القدرة اللغوية ومهارة الاتصال، وحتى المحظوظون الذين التحقوا بالجامعة خلال السنتين الماضيتين والذين استفادوا من تغيير المناهج والخطط الدراسية، لن ينطلقوا إلى سوق العمل قبل سنتين من الآن على الأقل. كما أن كثيرا من خريجي اليوم متخصصون في مجالات لم تعد مطلوبة لسوق العمل، ولأن الجامعات بصدد إطلاق رصاصة الرحمة على التخصصات التي تتنفس بصعوبة في سوق العمل، فهي لا ترى أن من المجدي استقطاب مدرسين لتخصصات ميتة. هذا الحديث قد يبدو استفزازيا لهؤلاء الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وأخرى ضحايا لسياسات التطوير الأكاديمية، ولكن لنكن أكثر واقعية وننظر للصورة العامة من بعيد.

منذ ثلاث سنوات اتخذت جامعات كثيرة قرارا بزيادة القبول في برامج الدراسات العليا، وفقا لمعايير الجودة العالمية في التعليم العالي وحاجة جهات التوظيف إلى درجات عليا في تخصصات معينة. ونتيجة لهذه السياسة الجديدة سجل أحد الأقسام الأكاديمية في إحدى الكليات قبول 50 طالبة للدراسة العليا في سنة دراسية واحدة، هذا يعني أنه خلال ثلاث سنوات سيكون لدى القسم الأكاديمي 50 خريجة يطالبن الجامعة بتعيينهن في وظائف أكاديمية، وسيأتي بعدهن بعام واحد 50 أخريات لديهن نفس المطلب. فهل يعقل أن يتم تعيين 250 خريجة في قسم واحد في خطته الخمسية؟

وإن التفتنا إلى برنامج خادم الحرمين الشريفين الذي وصل عدد مبتعثيه إلى نحو مائة ألف مبتعث ومبتعثة، فإنه خلال عشر سنوات سيكون لدينا مائة ألف عائد من البعثة يطالبون بالتوظيف الأكاديمي، فهل من الممكن أن تستوعب الجامعات السعودية توظيف كل هذا العدد الهائل؟

في كل بلاد العالم الجامعات هي إحدى جهات سوق العمل لحملة الدراسات العليا وليست حتى على رأسها، حيث تستقطب الشركات الكبرى والمؤسسات الحكومية المرشحين بحسب مؤهلهم الدراسي وقدراتهم الذاتية، ولا تنظر سوق العمل لهوية أو جنس أو جنسية المرشح بل تقوم بتقييمه من خلال مستوى تحصيله.

المشكلة في السعودية تكمن في ثقافة التوظيف، وفكرة أن التوظيف في المجال الأكاديمي والبحثي ينظر له كوظيفة عامة يشغلها من يحمل الشهادة العليا بصرف النظر عن التفاصيل، والتفاصيل هنا مهمة توجب النقاش حولها حتى وإن كان يسكنها الشيطان. الجامعات هي أحد أرباب العمل المنافسين على الخريجين أيا كانت جهة قدومهم، لذلك تحاول جذب واستقطاب أفضل المبتعثين من ناحية تحصيلهم الدراسي أو الجامعة التي تخرجوا منها، وأزعم أني كنت واحدة من الذين فرزوا ملفات بعض العائدات فتم قبول بعضها ورفض أخرى، وممن فرزوا ملفات خريجات الداخل فتم قبول بعضها واستبعاد أخرى، بمعنى أن الرغبة في توظيف العائدين ليست مفتوحة، بل مشروطة بمدى قوة التخصص والتحصيل العلمي وجهة التخرج. الجامعات السعودية تدخل في منافسة شرسة مع القطاعات الأخرى على العائدين وعلى الخريجين المحليين، وبالتالي غير صحيح أن الجهة المسؤولة عن توظيف حملة الشهادات العليا هي وزارة التعليم العالي، حتى وإن كانوا خريجي مؤسساتها المحلية. باختصار، تطوير العمل الأكاديمي والبحثي يستوجب انتقاء أصحاب الشهادات، وكونها عليا لا يعني أن الوظيفة مضمونة، ولا يعني أن صاحبها مؤهل، بل يجب أن يمر بمرحلة المفاضلة لأن المصلحة تقتضي استقطاب الأفضل سواء كانوا من خريجي الداخل أو الخارج.

هذا الطريق الذي اختارته الجامعات لتطوير مستواها البحثي والأكاديمي سيجعلها تمر بالكثير من المحطات، أولها كان إقرار سياسة المفاضلة والتدقيق على اختيار العنصر البشري في عملية التوظيف، وحتى تكتمل الصورة لا بد أن تمر الجامعات لا محالة بمحطة أخرى أكثر أهمية وحساسية وهي ميكانيكية التوظيف نفسها، فالعمل الأكاديمي والبحثي ليس جامدا، بل يتطلب حركة مستمرة وتجديدا للأفكار والخطط وتحديثا للاتجاهات وملاحقة للمنجزات العالمية، هذا النوع من الأعمال والذي يعتمد على الابتكار الشخصي يجب أن لا يوكل إلا لمن يملكون مقومات الشخصية الأكاديمية، ويحافظون عليها طوال حياتهم المهنية، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا بأن تتبنى الجامعات التوظيف بنظام العقود للسعوديين والسعوديات، لأن شعور الموظف بديمومة وظيفته بصرف النظر عن أداءه جعل الكثيرين من العاملين في هذا القطاع عبئاً عليه، حيث أن المحفزات كما يقول علم الإدارة لا تكفي وحدها لضمان جودة الإنتاج، يجب أن يكون مستوى أداء الموظف هو السبيل لحفاظه على كونه أكاديمياً أو باحثاً.

وبالعودة إلى موضوع استيعاب سوق العمل لحملة الماجستير والدكتوراه، فإن القلق يتركز أكثر على العنصر النسائي، لأن السؤال الكبير الذي يدور حوله المعنيين منذ سنوات؛ هو كيف للعدد الكبير من المبتعثات العائدات أو خريجات الداخل من السعوديات أن يستوعبهم سوق العمل إن كانوا لا يملكون من ساحة سوق العمل الواسعة إلا زاوية قطاع التعليم؟؟

* جامعة الملك سعود