سباق التسلح في الخليج العربي مكلف.. لكن لا مفر منه

TT

القلق بشأن إيران هو الدافع الأساسي لدول الخليج العربي لإبرام صفقات أسلحة ضخمة تقدر قيمتها بنحو 120 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، لتصبح من أكثر الدول إنفاقا على السلاح وشراء الطائرات المقاتلة الحديثة في العالم.

تصرفات إيران غير الودية، وسياساتها التوسعية، وتصريحاتها الاستفزازية هي المسؤولة عن الجولة الراهنة من سباق التسلح في الخليج العربي. لكن الإنفاق العسكري الخليجي الضخم يأتي أيضا ضمن استعداد دول مجلس التعاون لمرحلة ما بعد الانسحاب العسكري الأميركي من العراق، والتعامل مع استحقاقات تراجع الأحادية الأميركية إقليميا وعالميا.

عندما تصر إيران على السير في برنامجها النووي المثير للجدل، وتذهب بعيدا في تطوير ترسانتها العسكرية، وتتجه نحو عسكرة المجتمع والاقتصاد الإيراني، فإنها بذلك لا تترك المجال للدول الخليجية القلقة دوما من النيات الإيرانية سوى للإنفاق بسخاء على تحديث قدراتها العسكرية وتطوير احتياجاتها الدفاعية وتعزيز بنيتها الأمنية.

الرسالة الخليجية لإيران واضحة كل الوضوح. فهذه الدول الصغيرة والغنية ستجاري إيران خطوة بخطوة في الدفاع عن أمنها وبقائها. لن تستكين العواصم الخليجية أبدا لبروز طهران كقوة نووية وعسكرية، ولن تقبل، بأي حال من الأحوال ومهما كلف الأمر، أن تفرض طهران نفسها كشرطي في هذه المنطقة الحساسة من العالم. هذا خط أحمر خليجي لا يجب أن تقترب منه إيران سنتيمترا أو تتجاوزه ملليمترا.

لن تقبل دول الخليج العربي تحويل الخليج إلى خليج فارسي، ليس بالمعنى الحرفي والتاريخي، بل بالمعنى الاستراتيجي والجيوسياسي العميق. فالقبول «بفرسنة» هذا الشريط المائي الحيوي يتضمن الاعتراف بإيران كمركز الثقل السياسي والمرجع الاستراتيجي، وتصبح طهران هي الآمر والناهي الذي يحدد ما يجب وما لا يجب على بقية الدول فعله. القبول بالخليج الفارسي يعني بكل بساطة رفع الراية البيضاء لطهران، والقول بهيمنة إيران على الخليج العربي.

الجمهورية الإسلامية في إيران تسعى لاستعادة الحلم الشاهنشاهي في فرض اسم الخليج الفارسي، وتستغل ضعف العراق للقيام بدور شرطي المنطقة. هذا الأمر غير مقبول خليجيا وعربيا وحتى دوليا. دول مجلس التعاون وحدها، وفي ظل غياب العراق، تتحمل عبء منع بروز إيران وتحويل الخليج إلى خليج فارسي بالمعنى الجيوسياسي العميق. لذلك فإن سباق التسلح الراهن في المنطقة على الرغم من أنه مكلف جدا، لا مفر منه من أجل منع «فرسنة» الخليج العربي.

القلق الخليجي تجاه تضخم الدور الإقليمي الإيراني لا يبرر وحده تحول دول الخليج العربي إلى أكبر سوق للسلاح الأميركي في العالم. فالجولة الراهنة من سباق التسلح في المنطقة تأتي ضمن الاستعدادات الخليجية والأميركية الكبرى لمرحلة ما بعد الانسحاب العسكري من العراق عام 2011. فمن ناحية ترغب واشنطن في ربط دول مجلس التعاون عسكريا بواشنطن، وتحميلها جزءا من مسؤولية الدفاع عن النفط ومصادر الطاقة، وجعل قواتها المسلحة تحاكي حاجات الدفاع الأميركية.

لقد جرت العادة أن تضخم واشنطن الخطر الإيراني، وتؤجج الخوف والمخاوف من طهران، وتغذي القلق الخليجي من المشروع التوسعي الإيراني. لذلك تتحمل واشنطن نفس القدر من المسؤولية السياسية تجاه دفع المنطقة دفعا نحو جولة جديدة ومكلفة من سباق التسلح. إن لدى دول مجلس التعاون مخاوفها المشروعة تجاه الولايات المتحدة، خاصة أنه لم من يعد من الحكمة الاعتماد على الحماية الأميركية في ظل تراجع الأحادية الأميركية. هناك شك خليجي متزايد في قدرة ورغبة الولايات المتحدة بالالتزام تجاه الأمن والاستقرار في المنطقة على المدى البعيد، بما في ذلك احتمال عقد «صفقة كبرى» مع إيران على حساب مصالح الدول الخليجية الصغيرة.

فعلى الرغم من كل ما يقال عن عمق وتشعب العلاقات الخليجية - الأميركية، تظل العواصم الخليجية حذرة من النيات الأميركية الحقيقية، ومن سياساتها المتقلبة وحماقاتها المتكررة، وغير مطمئنة لمتغيرات المشهد السياسي الأميركي الداخلي الخاضع في جله لإرادة اللوبي الإسرائيلي في واشنطن. أميركا منهكة ماليا وتتجه نحو الانكفاء إلى الداخل، ومرتبكة سياسيا في الخارج بسبب بروز قوى عالمية جديدة.

ليس أمام دول الخليج العربي التي تقع في منطقة متوترة كل التوتر، ومحاطة بقوى توسعية، ووحوش نووية، وتعيش في ظل متغيرات مستجدات متتابعة وفي غاية التعقيد، سوى الإنفاق بسخاء للحفاظ على أمنها، وتنويع مصادر الدفاع عن ثرواتها. الاعتماد الكلي على الخدمات الحمائية الأميركية غير مقنع ويوشك أن ينتهي زمانه. فما تقدمه واشنطن من خدمات أمنية وعسكرية لم يعد بنفس الجودة السابقة، خاصة في ضوء الأداء العسكري الأميركي المتواضع جدا في كل من العراق وأفغانستان. ما زالت الولايات المتحدة قوية، ولا يشك عاقل في قوتها، لكن أميركا 2010 ليست بنفس قوة أميركا 2000، والاحتمال الأكبر أن أميركا 2020 لن تكون بنفس قوة ونفوذ أميركا 2010. كل ذلك يحتم على دول مجلس التعاون التفكير بهدوء وبحرص وبشكل جماعي في ارتباطاتها الاستراتيجية الواسعة بواشنطن.

تنويع مصادر الدفاع، كما هو حال تنويع مصادر الدخل وتنويع مصادر الطاقة، مكلف جدا، بيد أنه ضروري وحتمي، ويتضمن في المقام الأول تطوير القدرات العسكرية الذاتية لكل دولة خليجية. لكن ذلك وحده لا يكفي، فالمعطيات الجيوسياسية الإقليمية والدولية تتطلب زيادة حجم ونوع التنسيق العسكري ضمن البيت الخليجي. التنسيق العسكري بين دول مجلس التعاون هو شعار المرحلة المقبلة لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع إيران.

فعندما تنسق الرياض وأبوظبي، في أي مجال من المجالات، وتتحدث العواصم الخليجية بصوت واحد وموحد، كما ينبغي أن يتحقق خلال القمة الخليجية المقبلة، تكون النتيجة قوية، والرسالة مدوية في طهران كما في واشنطن.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات